زنزانة للعواطف الجميلة

TT

ما من مدينة في امريكا إلا ويتوسطها شارع باسم (لافاييت)، وفي باريس هناك متحف (لافاييت)، وميدان (لافاييت).. ناهيك من شوارع تحمل اسمه في العديد من مدن فرنسا.

من هو (لافاييت) هذا؟

اراد ان يدخل من بوابة التاريخ عملاقا، فخرج منها قزما، وعندما تصفحنا تاريخ حياته، لم نجد سوى محاولات رجل يسعى للقفز الى القمة الشماء، على أكتاف رجال الثورة الامريكية امثال واشنجطون، وجيفرسون، وفرانكلين، ولما فشل، قام بمحاولات اخرى مشابهة لسحب البساط من تحت قادة الثورة الفرنسية، كروبسبير، ودانتون.. وآخر محاولة له للوقوف تحت الاضواء، ولو تحت معطف بونابرت، اقصرت قامته الى حد مثير للسخرية، لكن شيئا واحدا في حياة هذا الرجل، هو الذي جعله موضعا للاعجاب!!

انها مخلوقة رقيقة، ساحرة مسحورة، تخطف القلب خطفا ببريق ذلك الكنز الرائع من الحب الذي حفظته لرجل واحد.. انها زوجته الكونتيس ادرين دي لافاييت.

يجزم من أرّخوا له، انه لولاها لذهب مع نفايات التاريخ.. لكنها كانت مُحبة له.. وكان هو مُحبا لنفسه!!

كان في السادسة عشرة، وكانت في الرابعة عشرة، حينما ارسل كيوبيد سهمه المرح الى قلبيهما وتزوجا.. هكذا بكل سهولة، ودون معارضة من أسرة الفتاة.

كتبت في مذكراتها تقول:

«الحب في اسرتنا هو الحاكم دائما.. علّمنا أبونا، وعلّمتنا أمنا انه لا شيء اعظم من حب حقيقي، ومنذ رأيت جلبير دي لافاييت، ادركت ان هذا هو بطلي.. وقد ظل كذلك الى آخر يوم في حياتي».

بعد اسابيع من زواج الفتى المراهق بالعاشقة الصغيرة سافر الى مدينة «متز».. سافر فجأة .. وهذا التهور المفاجئ كان السمة الغالبة على كل تصرفات لافاييت!!

ارسل الى زوجته رسالة يقول فيها:

«لا تظني بي شرا يا حبيبتي، انما اردت ان ابحث لي عن مكان تحت الشمس، مكان يشرفك ان تنتسبي الى الرجل الجالس فيه.. سأغدو ضابطا في الجيش الفرنسي.. هذا اذا قبلوني». تاريخ هذه الرسالة 16/04/1774.

ولم يقبلوه!! وظل متشردا اياما في شوارع (متز)، الى ان التقى برجل امريكي وقور، جاء يبحث عمن يبيعه اكبر كمية مستطاعة من البارود!! فقدم نفسه اليه قائلا:

«عرفت انك جئت من امريكا لشراء السلاح للثورة الامريكية ضد الانجليز.. وانكم في حاجة الى ضباط مدربين، وها انا ذا يا سيدي الضابط في الجيش الفرنسي، اضع سيفي في خدمة ثورتكم». وما هي الا عدة اشهر، واذا بلافاييت يحارب تحت قيادة واشنجطون. ومن امريكا كتب الى ادرين:

«أتتني فرصة رائعة.. انا الآن ضابط مرموق في الجيش الامريكي الوليد، اعتقد انني سأغدو امريكيا، بعد الحرب التي قاربت على نهايتها، ستأتين الى هنا، وسنحصل على الجنسية الامريكية الجديدة. لا مفر من هذا اذا اردت ان يكون لي مكان في الحكومة الجديدة، التي لولا جهودي، لما بدت بوادر تكوينها».

بهذه الصلافة، وهذه الانتهازية اللتين ظلتا عنوانا لحياته، كان لافاييت يعيش.. لكن الثورة الامريكية كما يذكر التاريخ، لم تكن في حاجة الى سيفه، ولا الى جهوده السياسية، لأنه فشل في الأمرين، في الحرب، والسياسة.. ويعود الى فرنسا، عارضا خدماته على لويس السادس عشر، الذي قال:

«انه لمن دواعي سعادتي كفرنسي، ان يسهم احد رعاياي في تحرير الشعب الامريكي، وبودي ان اغدق عليه ما يناسبه من التكريم.. ولكن من المحزن ان لافاييت، منذ ان وضع قدمه في باريس، حتى ظن انه لا يزال على الارض الامريكية، وان حربا تحريرية تنتظره هنا، ليخوض غمارها.. لن اسمح بهذا.. ولا بد من ان اضع لافاييت في السجن.. ولقد اخترت له سجنا مناسبا، وهو الا يغادر بيته لمدة ستة اشهر».

كتبت ادرين في مذكراتها:

«تلك كانت اجمل شهور عمري كلها.. جلبير معي ليل نهار لستة اشهر.. أهناك سعادة اكثر من هذا؟! ليت ان الملك يطيل مدة الحجز!! ولكن هذا سيحزن جلبير.. سأكف عن هذه الامنية الجميلة، فأنا من اجل سعادته احتمل كل شيء!!».

وحين علمت ادرين الرقيقة المحبة لزوجها بخيانة لافاييت لها، وانه على علاقة آثمة بالماركيزة الشابة هولشتين، كتبت الى غريمتها:

«ارجوك يا عزيزتي الماركيزة، ان تكوني رفيقة به، والا تظني ان حبه لك، يلغي حبه لي، فأنا اعرف انه قد ضاق بمنظري اثناء الحمل، فأنا لا يمر عام الا وأهبه طفلا جديدا، لعل الملل قد تسرب اليه مني، ومن الاطفال، ولكن حبي له اعظم من ان يقهر.. حافظي عليه الى ان يعود لنا».

كتبت هذه الرسالة، وهي على وشك ان تضع وليدها الخامس. وحين تمت الولادة، كتبت لها عشيقة زوجها الرسالة التالية:

«تقبلي يا عزيزتي ادرين تهنئتي الصادقة بمولد طفل جلبير دي لافاييت الجديد، فكلما ازداد عدد من يحملون هذا الاسم، كلما ارتفع للحرية علم، زوجك انسان طموح، وبودي ان يقرر العودة اليك، لن تجدي ساعتها من هي اسعد مني».

عاد لافاييت، ولكن الى عشيقة ثانية، فثالثة، والزوجة الرقيقة الصابرة، تعرف انه سيعود!!

كتبت في مذكراتها تقول:

«لا مفر من ان يعود.. من المؤسف ان اقول هذا، لأني اعرف لماذا يضطر الى العودة.. انه في حاجة دائمة الى المال، ولقد قلت له يوما: ارجوك يا حبيبي، اذا اردت العودة، فليكن ذلك من اجلي.. اذا اردت كل املاكي كتبتها لك من الآن، حتى اشعر بأنك عدت لي، وليس لمالي!!».

وقامت الثورة الفرنسية، وكان يقول:

«لا بد ان يكون لي مكان مرموق في هذه الثورة، فأنا رافع لواء الحرية في كل مكان».

لكن قادة الثورة كان لهم فيه رأي آخر، قال روبسبير:

«كيف نضم الى صفوفنا رجلا يأبى حتى ان يتنازل عن لقبه ونحن نطالب باعتقال النبلاء والاشراف، ثم انه رجل انتهازي اكتفى بالهتاف لنا من نافذة قصره، ومع ذلك يطالبنا بمقعد في القيادة!!».

وفجأة ترك باريس، وترك ادرين المحبة الصابرة، تواجه المحنة مع اطفالها الستة، وذهب الى فيينا، واخذ يكثر من الحديث عن الطغاة والطغيان.. ولا احد يدري من كان يعني بهذا الحديث..؟! أكان يعني رجال الثورة الفرنسية؟! أم لويس السادس عشر ونبلاءه؟! لكن ملك بروسيا حسم الامر، عندما استدعاه، وقال له:

«انني اعرف يا ماركيز لافاييت رجلا يثرثر بمثل الكلام الذي تردده في فيينا عن الطغيان والطغاة.. ولم اجد امامي من سبيل سوى ان شنقته حرصا مني على استتباب الامن».. وفر لافاييت الى منطقة ساكس في شمال بروسيا، وافصح علانية عن معاداته للثورة، ولكن ما ان هدده روبسبير بالقبض على زوجته حتى فرّ ذات ليلة من مقر قيادة الفرقة التي كان قائدا لها، ولكنهم قبضوا عليه بتهمة سرقة مرتبات الجنود، فوضع في السجن، فكتبت زوجته الى روبسبير تتوسل اليه ان يخرجها لتلتحق بزوجها، واذا كان الهدف هو حرمانها من الحرية، فلا مانع لديها ان يكتب روبسبير الى ملك بروسيا ليزج بها في السجن مع زوجها!!

لكن روبسبير لم يستجب لطلبها، فاشترت حريتها وحرية اولادها بكل ما تمتلك من ثروات وبساتين وقصور، ومجوهرات!! ولما مثلت امام ملك بروسيا قالت:

«اذا لم يكن هناك من أمل يا صاحب الجلالة في الافراج عن زوجي، فإني اتوسل اليك ان تجعلني واولادي معه، سنحتمل سوية كل شيء..!!».

وكتبت في مذكراتها عن ظروف لقائها بلافاييت وهو يقضي عقوبة عشر سنوات سجنا لم يمض منها سوى سنتين:

«لم يرنا في اول الامر.. لم يكن في الغرفة الضيقة سوى بصيص من النور المتسرب من فجوة صغيرة في اعلى الجدار.. تنبه الى وجودنا، حين اسرع الاطفال يحتضنونه.. بكينا جميعا.. ولكنني سعيدة .. ها انا ذا معه اخيرا.. اقسمت الا اغادر هذه الغرفة الا اذا غادرها معي. وبعد شهرين من الاقامة معه، بعثت الى الملك برسالة ان يمنحنا غرفة ثانية للاطفال، ولعل عطفه يشملنا بالسماح لنا ان نحضر الصلاة يوم الاحد».

بعد ان تسلم الملك رسالتها قال للوزراء:

«ان اخلاص الماركيزة دي لافاييت لزوجها يحرك شغاف القلوب ولا مانع عندي من ان اعفو عن زوجها رغم سرقته مرتبات الفرقة، وهروبه من موقعه العسكري، وتهجمه عليّ بالاقوال، سأغفر له كل ذلك بشرط ان يتراجع عن إلحاده، ويؤمن بوجود الخالق العظيم».

ولما بلغ ذلك ادرين، قالت لزوجها فرحة:

«لقد انتهت احزاننا، وسنخرج يوم الاحد القادم للصلاة». لكن لافاييت ابتسم، ولم يرد.. ومرضت المسكينة، وسرعان ما داهمها المرض الخبيث، وقبل وفاتها بلحظات، تلفظت بكلماتها الاخيرة لزوجها:

«سنلتقي هناك بين يدي الله في يوم الحساب.. اليس كذلك يا جلبير؟!».

وحين داهم لافاييت الاعياء، ونام نومته الاخيرة، همس بأذنه ابنه الاكبر في توسل:

«أبي .. أمي تنتظرك هناك، فلا تخذلها بالصلاة». فلم يرد الرجل بكلمة، واغمض عينيه للمرة الاخيرة.

***

عندما قرأت تاريخ لافاييت، لم اجد فيه ما يستحق كل هذه الضجة، التي تحيط باسمه، لكن احد الاصدقاء نبهني الى نقطة هامة.. اذ قال: ان الغربيين لا يفكرون .. بنمط تفكيرنا.. فنابليون بونابرت قد عرض فرنسا للهزائم، لكنه يظل بطلها القومي.. فأدركت عندها انهم يعتزون برموزهم، بغض النظر عن تاريخها السلبي.