الأزمات الدولية الكبرى بحاجة إلى مشروع عملاق للتغلب عليها

TT

رغم كل الجدل المثار حول شخص ليندون لاروش الأميركي ومرشح الرئاسة لعام 2004، لا يستطيع أحد ان ينكر أن لهذا السياسي تصورا متميزا وموزونا عن النهج الذي يدعو اليه منذ سبعينات القرن الماضي. وهو مؤسس لحركة سياسية عالمية لها مناصرون كثيرون في الولايات المتحدة وخارجها وخاصة في اوساط الطلاب الشباب.

لاروش، وعلى عكس الكثير من رجال السياسة، لا يتحدث عن برنامج مرحلي يصطاد به اصوات الناخبين، بل يطرح وبحيوية وقناعة المؤمن بما يقول، منظومة أفكار استراتيجية، اقتصادية ـ فكرية، قد يكون من شأن تنفيذها، تغيير مجرى التاريخ المعاصر. ولعل من الطريف التذكير بأن لاروش كان من أوائل من تنبأوا بسقوط جدار برلين عام 1988، و توحيد الألمانيتين. وطالب الدول الغربية بانتهاج سياسة تعاون اقتصادي للنهوض باقتصاد الدول الاشتراكية على غرار خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية التي اعادت بناء ألمانيا.

السنوات الاخيرة شهدت انتشارا لأفكار لاروش في الصين وجنوب آسيا، باعتباره الأب الروحي لمشروع اعادة الحياة الى طريق الحرير الجديد، او الجسر الأوربي ـ الآسيوي، وهو مشروع صناعي تكنولوجي هائل جدا، يهدف الى ربط القارات ببعضها البعض عن طريق شبكات نقل برية متطورة يصاحبها خلق مناطق صناعية وزراعية متطورة، وجلب التنمية الى مناطق كانت معزولة عن العالم وعن التطور التقني المتراكم في الغرب.

قراءة ما يطرحه لاروش من تصورات ومفاهيم جديدة، تدعو الى استحضار العقل والتحذير من مغبة تغييبه، بل امكانية وواقعية تحقيق سياسة تنقذ البشرية من كوارث الحرب والجوع والتمييز.

في إطار ندوة نظمتها الخدمة الإخبارية لمؤسسة Executive Intelligence Review في برلين، نهاية العام المنصرم، قدم ليندون لاروش محاضرة استغرقت اكثر من ساعتين عرض خلالها تحليلا لواقع الاقتصاد في الولايات المتحدة الاميركية، وتنبأ بانهيار النظام المالي العالمي خلال فترة قصيرة جدا، مؤكدا ان الازمة دخلت مرحلتها الاخيرة وانها في طور الاحتضار، وانه لا بد من تحرك سريع لمواجهة هذا الركود المؤدي الى الانهيار.

في حديث اجريته مع لاروش تناول تصوراته لانقاذ العالم، وحماسه الذي يصور فيه حتمية انهيار النظام الاقتصادي الأميركي بطريقة لا تخلو من طابع تبشيري، وكيف يرى الإمكانية العملية لتجنب هذا الانهيار، قال لاروش، ان من اهم الشروط لنجاح هذا التوجه هو إنشاء نظام مالي عالمي جديد على غرار بريتون وودز أي نظام New Bretton Woods System ليكون بديلا عن نظام صندوق النقد الدولي، واتباع سياسة مالية تهدف إلى تحفيز بناء اقتصاديات صناعية تكنولوجية على نطاق عالمي.

ويواصل لاروش القول، إن المستفيد الوحيد، حاليا، هو مجموعة بنوك ومؤسسات مالية وسياسية، ولا يجوز الخضوع لهذه المؤسسات التي تريد ترويض شعوب العالم، كما انه لا يرى مصلحة للشعب الأميركي او الأوروبي في تدمير أفريقيا او أميركا اللاتينية. فطالما هناك ازمة اقتصادية عالمية شاملة فلن ينقذنا سوى استراتيجية جديدة للتنمية.

للاقتصادي الأميركي تصور واضح وملموس عن الموقع الذي يجب ان يحتله ما يسمى بالعالم الثالث، في إطار عملية الانقاذ الجبارة تلك. فهو يدعو الى ضرورة العودة الى التراث الفكري الأميركي وبناء اقتصاد أميركا على اساسه، فهو الذي حرر الولايات المتحدة من الاستعمار البريطاني، وحارب ملاك الرقيق، وبنى اكبر قوة صناعية في العالم. واستنادا الى ذلك فان نهج السياسة الخارجية للولايات المتحدة في التدخل في شؤون الدول الاخرى يتعارض مع مبادئ السياسة الخارجية الأميركية التقليدية التي عرفها الشعب الأميركي منذ القرن التاسع عشر. والتزاما بالنهج الذي يمثله بذلك التراث فان الحكومة الأميركية مدعوة الى انتهاج سياسة خارجية قائمة على التعاون الاقتصادي مع دول العالم النامي، عن طريق المساهمة الفعالة في بناء الجسر البري الأوروبي ـ الآسيوي، ومشاريع البنية التحتية الأساسية من طرق وجسور وقنوات ري ونقل للطاقة لربط أفريقيا وآسيا و أوروبا عن طريق الشرق الأوسط، على ان يشتمل هذا المشروع على مشاريع لتحلية مياه البحر ونقل المياه العذبة لتشجير الصحراء العربية في اطار خطة الواحة التي من اهم مكوناتها تحلية مياه البحر باستخدام الطاقة النووية. كما سيستعيد الموقع الجغرافي الاستراتيجي للشرق الأوسط مكانته التاريخية باعتباره معبرا وجسرا يوحد القارات. وعلى أميركا اللاتينية التوحد في إطار كتلة اقتصادية صناعية مستقلة تمتنع عن دفع الديون في مجابهة مع صندوق النقد الدولي الذي يهدف الى تحويل اميركا اللاتينية الى مستعمرات بيد البنوك العملاقة. لا يوجد بديل عن الغاء ديون العالم الثالث. باختصار، الأزمة البنيوية الشاملة لا يمكن حلها الا بمشروع عملاق.

صدام الأميركي

لكن هذا الجزء من العالم لا يعاني من مشاكل اقتصادية وحسب، وانما هو ضحية مباشرة لأنظمة قمعية ودكتاتورية شرسة مثل النظام العراقي. تعقيبا على ذلك يعتقد لاروش ان الرئيس العراقي صدام حسين هو صنيعة أميركا نفسها، وانه وصل الى الحكم بمساعدتها، ولذا فالولايات المتحدة غير معنية بتغيير السلطة في العراق الا بالقدر الذي يحتوي هذا النظام، وبالتالي يضمن مصالحها. ان المشكلة في شن حرب ضد العراق، هي في تحولها الى سلسلة من الحروب القادمة، التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها، والتي لن تكون في مصلحة شعوب المنطقة.

يرى لاروش ان جنرالات الجيش الأميركي لا يريدون خوض غمار حرب جديدة. فالجميع يعرف ما سببه صدام حسين من مآس للعراق والمنطقة، وثمة شخصيات عراقية على درجة عالية من الكفاءة، يعرفها لاروش بصورة شخصية، تعرضت للتصفية على يد صدام حسين واجهزته القمعية. صدام كان لعبة بيد واشنطن حين دفعته لغزو الكويت. الدكتاتور سيسقط، هذه من الحتميات والشعب العراقي قادر على ذلك. ومن اجل تحقيق هذا الهدف، يجب رفع الحصار عن الشعب العراقي وحماية أطفاله من الموت.

رؤية لاروش «الفلسطينية»

يدين لاروش السياسات الاسرائيلية في قمعها للشعب الفلسطيني، ويؤكد أن بلاده، الولايات المتحدة الأميركية، قادرة، ان ارادت فعلا، على ايجاد حل للقضية الفلسطينية. انها اكبر قوة في العالم، ومع الدول الاخرى القوية، يمكنها انتزاع الحق الفلسطيني واجبار اسرائيل على القبول بإقامة دولة فلسطينية. ويركز في هذا السياق على أهمية ووجوب اشراك قوى السلام داخل اسرائيل في دعم هذا النهج..

ورغم ان لاروش يطرح نفسه كمفكر ووريث للمدرسة الفلسفية الأفلاطونية، فانه يصر على الترشيح للرئاسة ودخول معترك العمل السياسي. من وجهة نظره، يرى في هذا التنوع ميزة تجعله مختلفا عن بقية المرشحين، ولا تتناقض مع عمله السياسي، اذ يعتبر افكاره ومفاهيمه تصب في هدف انقاذ أميركا والعالم، وهو هدف لا يمكن تحقيقه الا من موقع القرار والقوة. انه ببساطة يريد تقديم مفاهيم جديدة للشعب الأميركي تكون حلولا لمشاكله الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، مفاهيم بديلة تجعله يفكر ويشارك في صنع القرار السياسي للبلاد. وهو يقتدي بذلك بمن عرفهم التاريخ كسياسيين ومفكرين في نفس الوقت، فالعمل السياسي يجب ألا يعني الغباء وعدم المعرفة وانعدام الثقافة.

ديمقراطية في خطر

من اهم القضايا التي تثير هواجس هذا الناشط السياسي، الذي بات معروفا في العالم العربي، تشخيصه للخطر الذي يحدق بالديمقراطية في بلاده. انه يعلن صراحة انه لا توجد في أميركا ديمقراطية حقيقية، فالديمقراطية لا تعني الذهاب الى صندوق الاقتراع وحسب، انها تراث وثقافة وقد فرغت من محتواها منذ زمن. ان الوقوف ضد سياسة الحرب الأميركية هو دفاع عن التراث السياسي الاميركي، ودفاع عما انجزته أميركا في الماضي، ويجب ان يعود الشعب الاميركي ليرفع صوته ضد شن الحروب باسمه وبحجة حماية الديمقراطية.

الحماس والجدية اللذان يتحدث بهما لاروش الأميركي الحالم بتغيير العالم، ينقلبان الى ضحكة ساخرة حين نواجهه بما يقال عنه من انه مليونير نازي. ويكرر انه يعرف جيدا مصدر هذه التشويهات والاكاذيب، انه مجموعة من المنظمات الصهيونية واليهودية اليمينية العنصرية المؤيدة لحزب الليكود الاسرائيلي. وسبب ذلك هو مناهضته لسياستهم. ويؤكد أنه دفع ثمن التزامه بأفكاره وايمانه بالقيم الاخلاقية، خمس سنوات من السجن، من عام 1989 الى 1994، بتهم لفقت ضده ويعتبرها وسام شرف.