تسميم الطعام بعد تسميم الأفكار

TT

في المرة الماضية تم الامساك بعسكري كويتي وجد يتآمر لوضع السم في طعام ضيوفه من الجيش الاميركي، والمرة التي سبقتها قبض على شرطي قام باطلاق النار وبرر فعلته بأغرب اجابة عرفها المحققون، اذ قال: انه يحب الاميركيين ولا يدري لماذا اطلق النار عليهم. وبالامس اطلق رصاص فقتل اميركي واصيب آخر.

هذه هي الكويت وليست الصومال، دولة، يفترض من وجهة نظر من يراها على الخريطة ويعرفها جيدا، انها قادرة على ان تتحكم في دقائق شؤونها بفضل التقنية وحزم الامن واستنفار الوضع البالغ الخطورة مع الاستعداد للحرب. لكن الحوادث الفردية قادرة على النفاذ والتخريب ويصعب منعها حتى وان كانت مرتبطة بعقل كبير في جبل ما او كهف بعيد، وعلى الاميركيين ان يدركوا انهم صيد سهل بسبب شيوع التحريض ضدهم وانتشارهم مع استعداداتهم للحرب.

احد المفكرين الكويتيين قال انه ضد الجهاد العسكري، يعني ضد الحلفاء الاميركيين، انما يدعو للجهاد المدني، اي اعلان الرفض والمعارضة وتحديد العلاقة مع الاميركيين. واثار قوله هذا جدلا عند الذين زرتهم امس في ديوانياتهم في الكويت فهم يرون ان هناك فاصلا بين الرأي والتحريض، وأن معظم حملة السلاح هم مترجمون لحملة الافكار، وعسكر لهذه الافكار المتطرفة الرافضة.

وبالتأكيد، بين مد اللسان ومد اليد علاقة وطيدة، خاصة في غياب تربية حرية الرأي التي يُفترض ان تتسع للجميع لا لفريق واحد، وحيث ان القول تصرف مشروع ويفترض ان نسعى لحمايته لانه، مهما كان متطرفا، فهو ضامن لحرية التعبير التي هي بالتالي الضامنة لحرية المجتمع، لكن المشكلة تكمن في كونها حرية من جانب واحد وحرية بلا تربية على التسامح، حيث تهيمن قوى محدودة على المجتمع ترهب غيرها ممن يختلف معها، فتخرسه إما باسم الدين او القومية او تنبذه بدعوى التبعية الاجنبية.

هذه مشكلة المجتمع المفتوح الذي يتمتع «بنصف حرية»، مثل المجتمع المصري والكويتي والمغربي الذي تتحكم فيه او تهيمن عليه افكار محدودة لها جمعياتها ومؤسساتها ودعمها الرسمي والشعبي، لتصبح هذه الحرية محصورة بفكرة واحدة.

ان الليبراليين، الذين يختلفون مع هؤلاء، لا يستطيعون ان يسوقوا فكرة تكميم الافواه، والا ما استحقوا ان يوصفوا بالليبرالية، التي عمادها الاساسي الايمان بحرية الفكر وتعدديته. وحتى تكبر هذه الرقعة الصغيرة التي تسيطر عليها طروحات محدودة، فان الحرية تبقى ناقصة وتحتاج الى حماية تعميم حق القول للغير وتشجيعه، خاصة في مثل هذه المجتمعات نصف الحرة، ومبارزة الفكر ضرورة للمجتمع العربي ان أريد له ان يتطور لأنه يعطي كل فرد فرصة للاختيار لا ان يساق نحو طرح واحد دائما.

ان الشرطي الذي لا يدري لماذا اطلق النار، او العسكري الذي انخرط في طبخ الوجبة المسممة، او الذي فعلها عند اشارة المرور امس الأول، هؤلاء ليسوا سوى نتاج الفكر المتطرف الذي يكافئ هؤلاء بالحسنات ويعدهم بجنات النعيم، وليس من سبيل سوى وجود ثقافة موازنة تربي الناس على ان يتعلموا فن الخلاف، فلا بأس ان يكونوا ضد الحرب وضد العلاقة مع الاميركيين طالما انهم مؤمنون بهذا الرأي، لكن المأساة انهم لا يكتفون بالهيمنة الفكرية بل يريدون فرض افكارهم بالسم او الرصاص.