حسابات مختلفة في الحرب ضد العراق

TT

في خضم العوامل المتشابكة فيما يتعلق بالحرب الامريكية المحتملة ضد العراق، يبدو ان هناك عاملين يكتسبان ثقلا متزايدا في تحديد توقيت العمل العسكري: وهما عامل السياسة المحلية المؤدية الى الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، ووضع السوق النفطية وتاثيرها على اسعار الوقود التي يشعر بتاثيرها المستهلكون يوميا وانعكاساتها المستقبلية على الوضع الاقتصادي عموما بكل ما يحمله ذلك من احتمالات مرعبة ان يصبح مصير الرئيس جورج بوش الابن مثل مصير الرئيس جورج بوش الاب: هزيمة انتخابية بسبب تردي الوضع الاقتصادي الداخلي رغم النجاحات في ميدان السياسة الخارجية.

هزيمة بوش الاب في انتخابات العام 1992 كانت بمثابة اعادة ولادة جديدة لبوش الابن، الذي كان حتى ذلك الوقت يتنسم خطى والده. وبدا منذ ذلك الوقت في اتباع خط مستقل بامل تجنب الاخطاء التي اودت بالمستقبل السياسي لابيه. وفي هذا المسعى كان الى جواره كارل روف، مستشاره السياسي، الذي التحق به منذ عشر سنوات وكان من المهندسين الرئيسيين لانتخابه حاكما لولاية تكساس.

خطة البعث الجديدة قامت على اساس استمالة يمين الحزب الجمهوري، بل وقيادة التيار الديني بعد تضعضع القيادات السابقة امثال القس بات روبرتسون وجيري فالويل. واهم من ذلك عدم استفزاز اللوبي الصهيوني والعمل على كسبه باي صورة، وهذان العاملان كانا وراء الضعف السياسي الذي اودى في النهاية ببوش الاب رغم انتصاره الكبير في حرب الخليج الثانية لاخراج العراق من الكويت التي لم تكلف الولايات المتحدة عبئا ماليا يذكر واسهمت في تخليص الامريكان من عقدة فيتنام.

على ان الدرس الذي خرج به روف ان الناس لا تعيش على ذكرى الانتصارات، وإنما يتسمر انتباهها على واقعها اليومي. فرغم الشعبية العالية التي حققها بوش الاب عقب انتهاء الحرب وبلغت 90 في المائة في بعض المراحل، الا انه بعد مضي عام لم يعد يتذكر ذلك واصبح التركيز على الوضع الاقتصادي المتردي وتحميل مسؤوليته للرئيس.

ولهذا يتخوف روف ان يتكرر نفس السيناريو. فرغم النجاحات التي حققها بوش وعبرت عن نفسها في الانتصارات السياسية للحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفية لمجلسي الشيوخ والنواب، مما نتج عنه سيطرة الحزب على كل مفاصل السلطة التنفيذية والتشريعية لاول مرة منذ نصف قرن من الزمان، الا ان الاشارات المقلقة بدات في البروز اذ هبطت شعبية الرئيس الى اقل من 60 في المائة لاول مرة منذ احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) مؤخرا. ولخص احد عمال البناء الموقف بقوله إنه يثق ببوش في صحبة ابنته، لكنه يثق بكلنتون عندما يتعلق الامر بعمله.

واذا شنت الحرب في الوقت الحالي، فان احد عناصر شد الانتباه الى الخارج سيتلاشى بمرور الزمن، ولن تعمر نشوة الانتصار حتى العام المقبل كي يمكن استخدامها اداة لدفع حملة اعادة انتخاب بوش لولاية ثانية. ويعود بوش الابن ليواجه نفس مصير بوش الاب بسبب الوضع الاقتصادي الذي يحتاج وقتا، لا يملكه او يسيطر عليه احد.

ولهذا فخيار روف المفضل تاجيل الحرب الى ما بعد الصيف وربما من الافضل فصل الخريف اذ يمكن بعدها الاستفادة من زخم الانتصار العسكري في الحملة الانتخابية العام المقبل، كما ان الوقت يمكن ان يكون مبكرا لتتبع متاعب الوضع في عراق ما بعد صدام حسين.

ومع ان البعض يرى ان الحشد العسكري يكلف حوالي 1.5 مليار دولار شهريا، وهو ما يضغط في اتجاه تسريع الحسم، الا ان التاريخ القريب يشير الى وجود وقائع عديدة تمت التضحية فيها بالمصالح العليا لحساب خيارات شخصية، وربما كان ابرزها تعويق هنري كيسنجر التوصل الى اتفاق مع الفيتناميين الشماليين عندما كان مستشارا للامن القومي وليعود بعد بضع سنوات ليقبل اتفاقا مماثلا عندما اصبح وزيرا للخارجية وتكليف البلاد ارواح آلاف الضحايا ومليارات الدولارات.

اما عامل النفط الذي يمكن ان يلعب دوراً في تحديد التوقيت فيتلخص في انه اذا قامت الحرب الآن فانها ستتزامن مع توقف الانتاج النفطي الفنزويلي، الامر الذي يعني في النهاية فقدان السوق لحوالي 4 ملايين الى 5 ملايين برميل يوميا، في الوقت الذي تتوفر لدول اوبك طاقة إنتاجية فائضة في حدود 3.5 مليون برميل في افضل الاحوال، وهو ما يضع ضغطا على وكالة الطاقة الدولية لاستخدام مخزونها الاستراتيجي، الامر الذي لم يحدث من قبل. ومع ان الولايات المتحدة جربت من قبل استخدام مخزونها الاستراتيجي قبل 12 عاما في الحرب ضد العراق، الا ان وجود العامل الفنزويلي هذه المرة يعطي الوضع ملمحا مختلفا، وذلك لان شحنات النفط القادمة من فنزويلا تحتاج الى اسبوع فقط للوصول الى الموانئ الامريكية بينما تحتاج الشحنات القادمة من منطقة الخليج الى ستة اسابيع.

ولهذا فحتى مع اللجوء الى الاحتياطي الاستراتيجي تحتاج واشنطون الى استمرار تدفق النفط للتعويض عن الكميات التي تضخها من الاحتياطي، والجهة المرشحة لذلك هي منطقة الخليج بكل ما يعنيه ذلك فيما يتعلق بعامل الوقت. وللعلم فزيادة سقف اوبك الانتاجي بمقدار مليون ونصف المليون برميل سيبدأ العمل به من مطلع الشهر المقبل، اي ان اثرها سيكون واضحا في السوق الامريكية في منتصف آذار (مارس).

وهناك احتمال ثان في هذا الجانب وهو ان يتم تاجيل الحرب في الوقت الذي يعود فيه الانتاج الفنزويلي الى طبيعته تدريجيا ليصل الى 5، 1 مليون الى مليوني برميل يوميا منتصف الشهر المقبل، وهو الوقت الذي يمكن استنفاده في الجبهة الديبلوماسية بحشد للتحالف الدولي واللجوء الى الامم المتحدة.

اما الاحتمال الثالث فيتمثل في عدم وضوح الصورة وبالتالي استمرار الاحتمالات مفتوحة على كل الاتجاهات، مما يؤدي الى بقاء الاسعار مرتفعة رغم تزايد الامدادات النفطية، وبكل ما يعنيه ذلك على المستهلكين والانتعاش المامول للوضع الاقتصادي العام.

اللافت للانتباه في كل هذا انه في الوقت الذي يتزايد فيه ثقل العوامل التي يقل فيها تاثير واشنطون مثل الوضع في كوريا الشمالية وما يجري في فنزويلا، يتزايد حجم الدور السياسي المحلي في المواجهة مع العراق سواء ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة او الوضع الاقتصادي، وهو ما يمكن ان يخرج باللعبة السياسية من اطار الصراع بين صقور الادارة وحمائمها الى ساحة مختلفة كلية، ولو ان الضحية واحدة في الحالين.