أسوأ بكثير مما هو متوقع في أسوأ التوقعات!!

TT

المفترض ان يتقدم المفتشون الدوليون بتقريرهم حول اسلحة الدمار الشامل في العراق الى مجلس الامن الدولي بعد اربعة ايام، ومن الان والى ان تمر هذه الايام الاربعة فان الرهان سيزداد احتداما بين الذين يرجحون احتمالات الحرب وبين القائلين ان كل هذه الجعجعة ستكون بلا طحن وان الاميركيين سيتراجعون في اللحظة الاخيرة بعد ان يوفروا لانفسهم ويوفر لهم الرئيس العراقي صدام حسين وتوفر لهم دول الاقليم ما يحفظ ماء الوجه ويجعلهم قادرين على التراجع.

واغلب الظن ان تقرير المفتشين الذي من المفترض ان يتقدموا به الى مجلس الامن الدولي في السابع والعشرين من هذا الشهر لن يكون لا بردا ولا سلاما ولن يكون كما يشتهي ويحب الذين لا يريدون لهذه الحرب المرتقبة ان تقع، فالمؤشرات كلها تدل وتؤكد على ان ما يحتويه هذا التقرير سيتلاءم تلاؤما كاملا مع التوجيهات الاميركية، والتوجيهات الاميركية كما نقرأ ونسمع كلها تعزز وجهة النظر القائلة بان الحرب قادمة لا محالة.

ونحن اذا اضفنا تصريحات بليكس الى تصريحات البرادعي فاننا نجد بلاغات عسكرية مبكرة ومسبقة رغم ان هذه التصريحات تبدو وكأنها مدهونة بالعسل ورحيق الزهور، فالقول ان تعاون بغداد لجهة التخلص من اسلحة الدمار الشامل لا يزال ناقصا وان ما قدمه العراقيون لا يقطع الشك باليقين ويفتح المجال واسعا امام الاميركيين ليعززوا مبرراتهم التي دأبوا على ترديدها ولينفذوا ما هم عازمون عليه وما هو مقرر والذي لا يبدو انه بحاجة الى مبررات واعذار.

ان لجان التفتيش محايدة وانه ليس في استطاعة بليكس والبرادعي، وهما العبدان الفقيران الى الله، مقاومة ضغوط اميركية لا تستطيع مقاومتها دول كبرى بحجم الصين وفرنسا ولهذا فانه علينا، منذ الان، ان نتوقع تقريرا متحيزا ومنحازا يضع في ايدي الاميركيين اسلحة لابتزاز مجلس الامن ولالزام من لا يريد المشاركة في الحرب بان يلتزم الصمت ولا يأتي بأي حركة.

هذا هو واقع الحال وان من اتى بالدب الى كرمه عليه ان يتوقع كل هذه النتائج، وان من يعتقد ان «المنطق» هو الذي يحدد ويوجه السياسات الدولية عليه ان يراجع حساباته جيدا. والمسألة بالنسبة للازمة العراقية التي لم تبدأ في عام 1990، بل قبل ذلك عندما وضعت القيادة العراقية اقدامها في الموقع الخطأ فوق خريطة التوازنات الدولية والتعاطي مع الولايات المتحدة، ليست مسألة منطق وقناعات اخلاقية بل مسألة موازين قوى ومصالح دولة غدت هي شرطي العالم بالفعل وباتت هي الدولة الاعظم والاقوى في الكرة الارضية.

هل ستندلع الحرب ويبدأ الهجوم على العراق ومتى؟!

الايام تمضي بسرعة وساعة الصفر باتت قريبة بغض النظر عما سيقوله المفتشون الدوليون في تقريرهم الموعود وسواء برأوا صدام حسين من اسلحة الدمار الشامل براءة الذئب من دم ابن يعقوب ام ثبتوا عليه كل التهم التي رددها ويرددها نمور وصقور وذئاب وذئبات الادارة الاميركية.

هناك من يعتقد ان كل ما تقوم به الولايات المتحدة من حشد عسكري متعاظم هدفه مجرد الضغط والمزيد من الضغط على صدام حسين ليضطر الى نزع اسلحة الدمار الشامل بنفسه وليقنع الاميركيين بالادلة الحازمة الحاسمة انه قام بالتخلص فعلاً من كل هذه الاسلحة، ويرى هؤلاء ان الرئيس العراقي الذي اثبت انه يستجيب لهذا الضغط سيواصل الاستجابة الى ان يقتنع بوش ويوقف هذه الحرب قبل لحظة اندلاعها.

وهناك من يعتقد ان محاولات حل الازمة سلميا سيحالفها النجاح في اللحظات الاخيرة وانه اذا لم يستجب صدام حسين لبعض الاصوات المطالبة برحيله فانه قد يقدم على خطوة عريضة إن ليس في هذا الاتجاه تماما ففي اتجاه قريب منه لارضاء الاميركيين وتوفير ما يجعلهم قادرين على الانسحاب من ميدان المواجهة بماء الوجه بعد حصولهم على تعويضات مالية مجزية وعلى عقود نفطية طويلة الامد.

وهناك من يذهب الى ابعد من هذا ويعلل قناعاته باستبعاد وقوع الحرب بالادعاء بان الاميركيين في حقيقة الامر مرتاحون لوجود صدام حسين وانهم رغم كل ما يقولونه ضده، في السر وفي العلن، يعترفون بانهم لو لم يستندوا الى ما قام به في حرب الخليج الاولى وفي حرب الخليج الثانية وما بينهما لما استطاعوا ان يوجدوا عسكريا في هذه المنطقة الاستراتيجية والحساسة بهذه الكثافة وبهذه القوة.

والحقيقة ان كل هذا الذي يقال في هذا المجال اما انه من قبيل احلال الاماني والرغبات محل الحقائق، واما انه تقديرات خاطئة تتكئ على استدلالات غير صحيحة وبدون اي اساس كالغمز من جانب الرئيس العراقي واتهامه في وطنيته والقول ان الاميركيين لا يمكن بالنتيجة ان يطيحوا برجل حقق لهم ما كانوا يعتقدون انه من المستحيلات التي لا يمكن تحقيقها.

لا يخفي الاميركيون انهم اذ يقومون بكل هذا التحشيد العسكري وبكل هذه الحملات الاعلامية والسياسية فانهم يريدون مضاعفة الضغط على القيادة العراقية، لكن الواضح ان هدف هذا الضغط ليس حمل الرئيس العراقي على التخلص من اسلحة الدمار الشامل، كلها وبكل انواعها، وانما التخلص من صدام حسين شخصيا اما بالتنحي الطوعي والخروج من البلاد واما بازالته بالقوة العسكرية هو ونظامه وحزبه والمجموعة المتحلقة حوله.

عندما يقول الاميركيون ان الرئيس بوش لم يأخذ قرار الحرب بعد وان ابواب حل الازمة سلمياً لا تزال مفتوحة فعلينا ان ننظر الى الامر من زاوية المناورات وعلى اساس ان من مصلحة الخصم ان يضلل خصمه وان يستدرج قناعاته بعيدا عن الحقائق وان يصيبه بالارتباك وسوء التقدير ويجعله يعيش حالة من الاسترخاء الكاذب الذي لا اساس له ولا مقومات يستند اليها.

لا اخطر من ان ينجح الخصم في وضع خصمه على الرصيف الذي يريده. واذا كانت الولايات المتحدة قد حولت، قاصدة متعمدة، المشهد كله الى هذا التشويش والارباك فلانها تريد تضليل القيادة العراقية ولانها تريد استدراج الدول التي تعارض الحرب، ولو شكليا، الى الموقع الذي تريده وانتزاع موافقتها المباشرة وغير المباشرة على القرار الذي تسعى اليه.

بالنسبة للازمة العراقية وكل ازمة شرق اوسطية مماثلة مشابهة يجب الاهتمام دائما بكل ما يبدر عن البريطانيين وليس عن الاميركيين، فالبريطانيون هم الاعرف بهذه المنطقة وبعاداتها وتقاليدها وهم الاقدر على دس السم في الدسم وهم الذين رتبوا اتفاقيات سايكس ـ بيكو المشؤومة كما انهم هم الذين كانوا وضعوا قرار مجلس الامن الدولي رقم 242 الذي لا يزال الجدل محتدما حول مضمونه رغم مرور نحو 36 عاما على صدوره وما اذا كان ينص على «الارض» التي احتلت في عام 1967 ام على «ارض» احتلتها اسرائيل في حرب يونيو (حزيران).

قبل انزال «النورماندي» الشهير في الحرب العالمية الثانية لجأ البريطانيون الى لعبة استخبارية في غاية القذارة لتضليل الالمان ووضعهم على الرصيف الذي يريدونه، فقد القوا القبض على جاسوس الماني واغرقوه في حوض سباحة مملوء بمياه البحر بعد ان وضعوا في جيبه وثيقة بريطانية «سرية» تقول ان الانزال الاميركي بقيادة ايزنهاور سيتم في منطقة اخرى غير منطقة النورماندي.

اخذت المخابرات البريطانية الجاسوس الالماني والقته على شواطئ بحر «المانش» من الجهة الفرنسية حيث التقط جثته الالمان وعثروا على الوثيقة البريطانية «السرية» فابتلعوا الطعم وحضروا انفسهم عسكريا في المنطقة التي ورد ذكرها في هذه الوثيقة بينما نزلت القوات الاميركية في النورماندي وحققت ذلك الانتصار الذي قرر مصير الحرب العالمية الثانية.

عندما التقى وزير الخارجية الاميركي الاسبق جيمس بيكر وزير خارجية العراق في ذلك الحين طارق عزيز عشية حرب الخليج الثانية ظن كثيرون ان الاميركيين غير جادين في الذهاب الى الحرب رغم كل التحشيد العسكري الذي يقومون به وكانت النتيجة ان ضرب الاميركيون ضربتهم بعد ما نجحت مناورتهم وبعد ان وضعوا القيادة العراقية والذين يؤيدونها على الرصيف الذي يريدونه.

لا تستطيع اي جهة باستثناء الاميركيين والبريطانيين تحديد موعد ساعة الصفر بالضبط ولا يستطيع احد الجزم بان الحرب واقعة لا محالة حتى وان خلع العراقيون جلودهم وسلموها للجان المراقبة بقيادة بليكس. لكن بصورة عامة، وهذا يعرفه العسكريون، لا يمكن ان يكون هذا الحشد العسكري بهذه النوعية من القوات من اجل المناورة فقط ومجرد الضغط لالزام القيادة العراقية بمزيد من التنازلات هذا اذا بقي هناك شيء يمكن التنازل عنه.

سيكون تقرير لجان التفتيش اسوأ بكثير مما هو متوقع في أسوأ التوقعات والواضح ان ساعة الصفر اقتربت رغم كل هذه المساعي التي تقوم بها تركيا وبعض الدول العربية، والمرجح ان تكون ساعة الصفر هذه في الثلثين الاولين من فبراير (شباط) المقبل فالاستعدادات طال امدها وبوش بات يخشى تصاعد المظاهرات المعارضة للحرب خصوصا في الولايات المتحدة وبات يخاف من ان عامل الوقت قد ينقلب لمصلحة الرئيس العراقي ولمصلحة الدول الكبرى والصغرى التي تؤيده وتدافع عنه.

ان الحرب واقعة لا محالة، فهذه الغيوم التي تتلبد في اجواء المنطقة لا يمكن ان تنقشع بالتمنيات ولا يمكن الا ان تكون نذير عواصف عاتية وهذا يعني انه على الدول التي سيجتمع وزراء خارجيتها اليوم في اسطنبول ان تأخذ كل هذا في الاعتبار وان تستعد لزلازل قادمة وألا تحاول مواجهة الحقيقة بالبيانات المنمقة والكلام المعسول وبالتغميس خارج الصحن.