الفقه والسياسة .. مزيج خطير

TT

ماذا يحدث عندما تمزج السياسة والفقه؟ هنا اجابة من بين الاجابات: شيء مثل الذي حدث في الدوحة قبل ايام عندما التقت مجموعة من رجال الدين لمعالجة «بعض المشاكل الملحة». وتطلق تلك المجموعة على نفسها اسم «مجمع الفقه الاسلامي»، وهي مدعومة من حكومة قطر، وتسعى لخطة طموحة بمنافسة الازهر كمركز للمسلمين السنة، وقد ضُم رجل دين ايراني يشغل منصبا صغيرا من اجل الشكل.

في البداية، تبدو هيكلية هذا المجمع سياسية اكثر منها دينية. فالبيان الصادر في نهاية اللقاء يبدو مثل البيان النهائي لمؤتمر حزب سياسي، اكثر من كونه مجموعة من الفتاوى حول القضايا التي طرحت للنقاش. وكما يعلم اي دارس للفقه فإن الخطوة الاولى نحو تشكيل وجهة نظر هي تحديد القضية المطروحة. ففي الفقه لا يمكنك اتخاذ موقف حول ما لم تحدده. في السياسة يمكنك ذلك، فعلى سبيل المثال، لا يحتاج السياسي لابلاغك ماهية الارهاب لكي يعبر عن رأي او آخر حوله.

وفي الفقه نجد الوصف يسبق الفرضية، بينما في السياسة تتولى القيادة اتخاذ القرارات ويتولى النقاد التعليق.

ووجهة نظر الفقيه تتكون عبر سلسلة من الجدليات تحتوي على كل الابحاث والمناقشات المتوفرة التي تشير في النهاية الى نص مقدس. وعندما يضيع اي من المكونات المعقدة، فإن الفقية الحكيم اما ان يلتزم الاحتياط او يقر وجهة النظر التي توصلت الى اكبر قدر من الاجماع. اما الفقيه المتزمت، فيبحث عن بعض النصوص القديمة ويتمسك بها بقوة، فيما الفقيه الكسول يراوغ. والفقيه السياسي سيأتي دائما بشيء يبدو جيدا في قناة «الجزيرة» من دون ان يسيء بالضرورة الى الجهة التي تتحكم في التمويل. ولم يجد المشاركون في مؤتمر الدوحة صعوبة في اصدار بيان انتهازي يؤدي في النهاية لنتيجة عكسية حول العراق، اذ طرح الموضوع باعتباره «العدوان الاميركي والبريطاني ضد العراق»، لكنه لم يشر الى ان العراق في نزاع مع الامم المتحدة بأكملها، وانه تراجع عن التزاماته طبقا لقرار وقف اطلاق النار طبقا لاتفاقيات 1991، كما لم يتضمن الاعتراف بحقيقة ان العديد من العراقيين، من خلفيات دينية وعرقية، يعملون بنشاط لاسقاط النظام الحالي في بغداد. ولم يشعر المشاركون في المؤتمر بالحاجة الى تحديد القضية التي يدلون بوجهة نظر حولها.

والامر الاكثر اثارة للقلق هو حقيقة ان المؤتمر يبدو انه يلغي كل جوانب الشر والخير. فهو يتصور انه يكفي لنظام ان يعلن نفسه نظاما اسلاميا من اجل اعفائه من الحكم الاخلاقي.

لقد امتدح العديد من المشاركين في المؤتمر الولايات المتحدة عندما تدخلت لانقاذ الشعوب الاسلامية في البوسنة وكوسوفو من القمع الوحشي الصربي. ولكن عندما يتعلق الامر بنظام اكثر استبدادية ووحشية وبانقاذ شعب العراق المسلم من النظام الحالي في بغداد، فإن الولايات المتحدة اعتُبرت «العدو»!

من الواضح ان هذا موقف سياسي وليس فقهيا، فالموقف الفقهي يدين كل انواع القمع بغض النظر عن المسؤول عنه، وهو يؤيد اي شخص يحاول وضع نهاية له. كما ان المشاركين في المؤتمر تصرفوا مثل السياسيين عندما تجنبوا اتخاذ موقف فيما يتعلق برأي الازهر الذي يسمح للمصارف بفرض فوائد. ان اكثر الفقهاء تصلبا يتمسكون بحقيقة ان الاسلام يحظر صراحة الربا. كما يحرّم الاسلام ايضا السخرة، ولكنه يقدر العمل بالمعنى الطبيعي لهذه العبارة ولا يمكن لشخص استخدام حجة الحظر على السخرة لمنع كل انواع العمل.

ولقد اساء فقهاء الدوحة الى انفسهم فيما يتعلق بموضوع الارهاب. فلكي يتجنبوا تحديد الارهاب لجأوا الى الاسلوب الاغريقي القديم المعروف باسم برهان النقيض. فقد عرضوا مجموعة من النشاطات التي لا يمكن اعتبارها ارهابا، مثل الدفاع عن الوطن ومقاومة المعتدي. المشكلة هي تحديد من يقرر ان فعلا ارهابيا امر مشروع في صراع للتحرير الوطني او مقاومة المستبد. فعلى سبيل المثال، هل يحق للشيشان، الذين من الواضح انهم يعانون من القمع ويحاربون من اجل التحرير، ان يفعلوا كل ما يرغبون فيه ما دام الضحايا من الروس؟ وهل يعتبر الذين قتلوا مائتي سائح في جزيرة بالي باندونيسيا ابطالا اسلاميين؟

ان الموقف الذي تبناه المجتمعون في الدوحة، من هذا المنطلق، غير اسلامي، لان الارهاب شكل من اشكال العنف، ويفرض الاسلام مجموعة متشددة من الاجراءات على استخدام العنف، وحتى في تلك الحالة كملاذ اخير. ويعتقد البعض في الغرب اي ان شخص يطلق لحيته ويرتدي الملابس الوطنية من حقه اعلان الجهاد، الذي يقارن خطأ مع المفهوم المسيحي بـ«الحرب المقدسة». ومن المرجح ان يدعم الغموض هذا الادعاء الكاذب.

ويبدو ان بعض هؤلاء الذين تحدثوا امام المؤتمر يعتقدون ان وسيلة التعامل مع احمق هي التربيت عليه. والامر الاكثر اثارة للقلق هو فشل مؤتمر الدوحة في اتخاذ موقف من العمليات الانتحارية. فقد تلاعب بعض المشاركين حول هذه الفكرة بمساعدة بعض الخدع الديماغوجية للسياسيين. ولم يتمتع اي منهم بالشجاعة لاعلان موقف الاسلام الذي يعتبر الحياة هي القيمة الاعلى ويحظر صراحة الانتحار لاي سبب من الاسباب.

وقد خُصص جزء كبير من المؤتمر لبحث «مشكلة العولمة».

وبدلا من الاعتقاد ان المسلمين يمكن ان يكون لهم، بل يجب ان يكون لهم دور متزايد في العولمة، سواء في المجال الفكري او الاقتصادي، فإن فقهاء الدوحة وصفوا الظاهرة بأنها «امر من فعل الاخرين ضدنا». هذا الموقف الانهزامي الذي يعتبر فيه المسلمون انفسهم موضوعا للتاريخ بدلا من صانعيه، ادى بفقيه في الدوحة الى اتخاذ موقف كوميدي بالدعوة الى مقاطعة الهامبرغر والبيتزا كنوع من الجهاد ضد العولمة.

من حسن الطالع عدم وجود «باباوات» في الاسلام، والمؤمن غير ملتزم بقبول رأي اي شخص. وعندما تعرض وجهة نظر عرضا جيدا وبطريقة معقولة، مثل رأي الازهر بخصوص المصارف، تتبعها الاغلبية. اما عندما تكون وجهة النظر سخيفة فانها سرعان ما تنسى.