حوار القاهرة لم يفشل لأن المقاومة رفضت تجميد عملياتها

TT

إذا مضت الأمور طبقاً للمسار المتفق عليه، فيفترض أن تبدأ في القاهرة غداً (4 فبراير/شباط) الجولة الثانية من حوار الفصائل الفلسطينية، الذي تعددت الاجتهادات في شأن مصير جولته الأولى، ومال أكثرها الى التشاؤم وترجيح كفة الفشل. ورغم أن اصدار حكم على حوار لم ينته بعد من قبيل التسرع غير المحمود، إلا أنه من المهم للغاية في تقييم مجرى ذلك الحوار أن يتفق على معيار قياس الفشل أو النجاح، حتى لا تتداخل الأمور وتلتبس، فيتحدث اناس من موقعهم عن فشل، بينما ينطلق آخرون من موقع آخر فيرجحون كفة النجاح. ثم إنه في المفاوضات المعتمدة لا يكون الخيار عامة بين الأبيض والأسود، وانما يبحث الجميع عن تقدم في المساحة الرمادية الواقعة بين المنزلتين. من ثم فإنه يظل مهماً للغاية أن تعرف ما إذا كانت المفاوضات تحرز تقدماً إلى الأمام، أم أنها تستصحب انتكاسات وخطوات الى الخلف، واذا كان بلوغ الأهداف النهائية مهماً إلا أنه من المهم أيضاً في تقييم المفاوضات التعرف على ما إذا كانت ثمارها تقرب المحاورين من الهدف أم تبعدهم عنه.

مثلاً: هل يعد وقف العمليات الاستشهادية نجاحاً أم فشلاً؟ لقد عرضت نموذج العمليات الاستشهادية لأنني أحسب أنها كانت نقطة البدء، بل محور حوار القاهرة، الذي دعيت إليه حركة حماس في البداية، حتى زار ممثلوها العاصمة المصرية سبع مرات خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. ولأن حماس ليست وحدها في ساحة المواجهة مع العدو الصهيوني، فقد كان طبيعياً أن تشارك في المناقشة الفصائل الاربعة الأخرى المقاتلة على الأرض الفلسطينية وهي: فتح (كتائب شهداء الاقصى) ـ الجهاد الاسلامي ـ الجبهتان الشعبية والديمقراطية.

كان أحد الأسئلة النظرية التي طرحها ممثلو حركة حماس مايلي: اذا قررت الحركة تجميد عملياتها الفدائية والاستشهادية، فلمن ستسلم القرار، وكيف ستكون آلية ادارة العمل السياسي في هذه الحالة. واذا كان القرار سيصدر عن منظمة التحرير أو السلطة، فكيف يمكن من الناحية المنطقية أن يطلب من حركة بحجم حماس وثقلها على الأرض أن توقف عملياتها الفدائية، ثم تسلم قرارها الى جهة ليست ممثلة فيها ولا تطمئن الى آلية اتخاذ قراراتها؟

طرح هذه الأسئلة استدعى الى الطاولة ملف ترتيب البيت الفلسطيني الأمر الذي اقتضى توجيه الدعوة الى ممثلي 7 فصائل أخرى ممثلة في منظمة التحرير لكي تشترك في مناقشات القاهرة وهو ماحدث، الأمر الذي أسهم في توسيع نطاق المناقشات لكي تشمل مجمل الأوضاع الفلسطينية المتصلة بترتيب البيت ووحدة العمل الوطني.

مع ذلك فقد ظلت مسألة تجميد العمليات الاستشهادية تحتل مكانها على رأس جدول المناقشات.

وفي حدود علمي، فان الاتفاق على التجميد (المقترح له مدة سنة) اذا ماقدر له أن يتحقق، يفترض أن يكون ركيزة لمبادرة مصرية يراد لها أن تطلق خلال الأسبوعين القادمين. وهناك حرص على بلورتها وتقديمها لمختلف الأطراف قبل نشوب الحرب الأميركية ضد العراق، التي يقدر الخبراء في أكثر من عاصمة أن الموعد المرجح لها سيكون الأسبوع الأخير من الشهر الحالي. وثمة ظن بأن فكرة التجميد اذا تم الاتفاق عليها يمكن أن تحرك مسار التسوية السياسية لعناوين القضية الفلسطينية، خصوصاً أن فوز حزب الليكود بأغلبية كبيرة في انتخابات الكنيست يوفر لرئيس الوزراء ارييل شارون امكانية أفضل لاتخاذ ما يصفه هو بقرارات «مؤلمة» تمهد الطريق لاقامة دولة فلسطينية. والذين يرادوهم ذلك الظن يستحضرون حقيقة أن زعيماً سابقاً لليكود هو مناحم بيجين كان من عقد المعاهدة مع مصر، التي انسحبت بمقتضاها القوات الاسرائيلية من سيناء.

حسب معلوماتي فإن الاتفاق تم في آخر اجتماعات الجولة السابقة على وقف التصريحات والحوارات الصحفية من جانب ممثلي الفصائل المختلفة، حرصاً على استمرار الحوار في جو هادئ، وحتى لا تتعمق الخلافات وتفتح أبواب المزايدات. مع ذلك فبوسعنا أن نقول أن الحوار أثرت في أجوائه عوامل أربعة هي:

* حرص فصائل المقاومة على احتفاظها بشرعيتها كقوة تحرير للأرض المحتلة تعطيها المواثيق والأعراف الدولية الحق في مقاومة الاحتلال بمختلف الوسائل. وهو ما دفعها الى التمسك بحقها في استمرار المقاومة المسلحة ورفض القاء السلاح طالما استمر الاحتلال.

* ان الأفكار التي طرحت لم تتطرق الى أي مقابل للتجميد المؤقت للعمليات الاستشهادية، وانما راهنت كلها على امكانية أن يتوافر هذا المقابل في المستقبل، اذا ما تم تفعيل التجميد ومورست عدة ضغوط لتوفير المقابل من جانب الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. وهذه المراهنة على المستقبل أثارت قلق الفصائل التي ذهب ممثلوها الى القول بأن في الأمر مقامرة غير مضمونة، كما أن أوضاع مابعد الحرب المحتملة قد تجعل الولايات المتحدة في غنى عن ممارسة أي ضغط على تل أبيب. فضلاً عن أن واشنطن قد تجد مصلحتها في استرضاء اسرائيل بدلاً من الضغط عليها، لكسب الصف اليهودي الى جانب الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية القادمة.

* ان مشروع رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون ألغى عملياً كل ماهو سياسي في التعامل مع الملف الفلسطيني، من حيث أنه تمسك بأسلوب السحق والتركيع، واذ تزامنت اجتماعات القاهرة مع عمليات التصعيد الاسرائيلي في الأرض المحتلة، والمذابح التي ارتكبت في قطاع غزة والضفة، فضلاً عن حملة تهديم البيوت وتجريف الأراضي، فان ذلك كله أحكم اغلاق أبواب الأمل في امكانية المراهنة على حل سياسي في ظل حكومة شارون. وبالتالي كان عنصراً له تأثيره السلبي على أجواء الحوار. حيث بدا أن هناك من يفكر في حل سياسي مع طرف ألغى السياسة من مشروعه.

* ان فكرة التجميد لمدة عام أثارت هواجس البعض، باعتبار أنها تشكل البند الأول في خطة «الطريق» الأميركية، التي لم تر فيها الفصائل الفلسطينية سوى رؤية أميركية تحمل الفلسطينيين بالتزامات وأفعال متعددة، بينما لا تطالب الاسرائيليين إلا بكلمات ووعود.. ورغم أن ذلك قد يكون مجرد مصادفة، إلا أن بحث التجميد في القاهرة، في توقيت متزامن مع عملية بحث اصلاح السلطة الفلسطينية في مؤتمر بلندن أعطى انطباعاً لمن ذهبوا بعيداً في الظن بأن تنفيذ خطة الطريق جار في أكثر من عاصمة.

صحيح أن جواً من الثقة والمصارحة ساد الحوار المصري الفلسطيني، والفلسطيني الفلسطيني، وذلك انجاز مهم فتح الباب لتفاهمات يمكن أن يكون لها مردودها الايجابي في المستقبل، إلا أن العوامل الأربعة التي ذكرتها ظلت حاضرة في خلفية الحوار، ولم توقف تقدمه.

عامداً استخدمت كلمة «التقدم» في وصف نتائج حوار الجولة الأولى، لأنني أحد القائلين بأنه لم يفشل. واذا كان هناك من يظن أنه يمكن حسم المسائل الرئيسية المعلقة في الملف الفلسطيني خلال حوار يستمر ثلاثة أيام. فأقل ما يمكن أن يوصف به أنه يبسط الأمور بأكثر مما ينبغي. فالجسور التي امتدت لا ينبغي الاستهانة بها، والخلاصات التي قيلت من الأهمية بمكان (أبو مازن ـ مهندس اتفاقات أوسلو ـ قال أثناء الحوار لأول مرة إننا أخطأنا في أوسلو) ـ وتمسك بعض الفصائل بحقها في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل، ورفضها القاء السلاح، يمثل نجاحاً لمشروع المقاومة لا ريب.

الحل الوسط الذي قدمته حماس في هذه المسألة عبرت فيه عن استعدادها لوقف العمليات الفدائية ضد من يسمون بالمدنيين في داخل اسرائيل (المستوطنون وعناصر الجيش محاربون لا يشملهم الوقف) هذا اذا أوقف الجيش الاسرائيلي عملياته ضد مدن وقرى الضفة والقطاع، وأبدى استعداداً للانسحاب منها، وقد اعتبرت حركة حماس أن هذه هي حدود التهدئة التي تملكها لأن ضحايا العمليات الاستشهادية من أولئك «المدنيين» يمثلون مابين 60 و70% من الاسرائيليين الذين قتلوا خلال عامي الانتفاضة. واذا ما تحققت هذه الخطوة فانها قد لاتلبي المطلب الأصلي حقاً (المتمثل في وقف كل العمليات) لكنها تقترب من الهدف بنسبة بين 60 و70%، وهو مايعد تقدماً بالمعيار النسبي. ورغم أن حركة الجهاد لم تحدد موقفاً في هذا الصدد، إلا أنها لم تعترض في الاجتماعات على العرض الذي قدمته حماس.

خارج دائرة العمليات الاستشهادية فإن الأمور الأخرى كان الالتقاء حولها أكبر، خصوصاً تلك التي تعلقت بالدولة وحدودها والمرجعية السياسية وآليات اصدار القرار الفلسطيني وتحقيق الوحدة الوطنية، الأمر الذي يعني أن قضية العمليات الاستشهادية هي الوحيدة المعلقة، التي يمكن أن تؤدي الى اطلاق المبادرة المصرية أو استبعادها. واذا انتظرنا أياماً معدودة فان قدرتنا على التقييم ستكون أفضل. أما اذا كان لي أن استبق فلعلي أقول إنني أتمنى أن تستمر المقاومة وأن تطلق المبادرة على الأقل في شقها المتعلق بالوحدة الوطنية والمرجعية الفلسطينية. أما اذا كان لي أن أختار، فلا شيء يعادل استمرار المقاومة ـ والله أعلم.

ملحوظة: قبل أسبوعين كتبت مقالة في هذا المكان حول الاجتهادات المختلفة في تفسير كراهية السياسة الأميركية، وعرضت لثلاثة آراء في الموضوع نشرت على صفحات «الشرق الأوسط». وانتقدت ما كتبه كاتب مستجد من أبنائي في المهنة (في العام الذي ولد فيه كنت محرراً بجريدة «الأهرام») أرجع تلك الكراهية في مصر الى ما أسماه «تديين» المجتمع، حيث زعم أن الاخوان المسلمين استولوا عليه (من وراء ظهر الحكومة). غير أنني لم أصدق عيني حين قرأت في عدد «الشرق الأوسط» الصادر في 29/1 رداً مدهشاً على ما كتبت تحول من نقض الفكرة الى تجريح كاتبها، ناهيك من أنه حفل بالافتراءات والأكاذيب، التي أهدرت أدب الحوار واغتالت موضوعيته، الأمر الذي دفع بالمناقشة الى منعطف ليس لي فيه باع، يتنزه عنه الكتاب المحترمون، فضلاً عن أن الصحف المحترمة تلفظه وتتأبى عليه، وذلك تعليقي الوحيد على ماقرأت في المقالة الفاجعة.