فقهاء المسلمين ودورهم السياسي

TT

لا يبدو في الأفق ما يشير الى أن القائمين على الأحزاب التي تدعي أنها وحدها الحامية والمدافعة عن الإسلام والمسلمين، توصلوا الى قناعة بأنهم ليسوا وكلاء لله في الأرض ولا أولياء على ضمائر الناس ولا يحق لهم فرض فتاواهم التي لا تستند إلا على الهوى السياسي، ولا علاقة لها بنصوص القرآن. وموجة التكفير لا تنتهي وصرخات الدعوة الى مواصلة العمليات التي تؤدي بحياة زهرة شباب الشعوب لا تتوقف عند حد.

التمعن فى اسماء بعض هذه الأحزاب والجماعات تدل بوضوح على العقلية التي لا تعترف بالآخر، فما هو مفهوم من يدعي أنه من «جيش محمد» والآخر «جند الله»، وواحد يدعي أنه «حزب الله»، وثان يقول إنه يمثل «الجهاد الإسلامي»، وبذا يضعون حاجزا بينهم وبين من يريدون التعامل معهم كأحزاب وجماعات سياسية، فليس مقبولا في نظرهم ولا يعقل ولا يجوز أن يوجه النقد الى حزب يمثل الله كما يدعي، أو جماعة مسلحة تدعو الى الجهاد من أجل الإسلام.

إن هؤلاء يتقمصون الدين لخدمة أهدافهم وأغراضهم التي لا تزيد على الوصول الى الحكم والسيطرة على عقول العامة، والعبث بنصوص القرآن والاستناد الى أحاديث يختارون منها ما يروق لهم ويتجاهلون ما يتناقض مع قيم الانسانية التي دعا اليها النبي محمد عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه الراشدون من أبي بكر الصديق الى علي بن ابي طالب رضي الله عنهم جميعا.

تركت الحكومات العربية المجال لهؤلاء ليملأوا الساحة بما يحلو لهم من الخطاب السياسي المغلف بالتوجهات الدينية التي تروق لهم وتخدم غرضهم، وانسحب المثقفون الذين ارهبتهم الدولة والجماعات الدينية، فبقي العامة في حيرة من أمرهم لا يجدون مجالا للاختيار إلا ساحات الدعاة والفقهاء، الذين لا يملكون إلا الاستخدام المسيء لكلمات الله، وحشو عقول الشباب بها.

وانضمت الى هؤلاء جماعات ممن تطلق عليهم أجهزة الإعلام اسم «الكتاب الإسلاميين»، انضموا الى الركب والتجريح والاستخفاف بأي رأي لا يناسب تطلعاتهم للحصول على النجومية كالفنانين والفنانات. وأصبح الكتاب الإسلاميون يشغلون وسائل الإعلام بتحليلاتهم السطحية التي تعتمد على فقه عالم منتظر، وإمام لم يقرأ في حياته إلا كتب الحيض والنفاس وعذاب القبر وتوزيع مفاتيح الجنة للبسطاء. ولم تتح الحكومات لغير هؤلاء مساحة للرأي الحر الذي يركن الى العقل والتحليل العلمي والرؤية المستنيرة.

الإعلام العربي يروج لهؤلاء والأمر لا يحتاج الا الى تصفح سريع لصفحات الجرائد التي لا تقدم الا السقوط المذهل فهل من المعقول أن تنشر صحيفة عربية في القرن الواحد والعشرين أن مريضة بالسرطان تم علاجها بالرقية الشرعية بعد أن عجز العلم عن شفائها؟ إنه الاستخفاف المروع بنا وبقدرتنا على الإبصار. وهل من المعقول أنه بعد الطفرة التقنية المذهلة تختلف على رؤية الهلال، ولا نقبل حكم العلم الذي لا يحتمل الخطأ في هذا المجال؟

إن بعض الداخلين على الدين مشغولون منذ قرون طويلة فيما يجعل الناس مطية لأغراضهم، ويعلمون يقينا أنهم بذلك يظلون في صدارة المجتمع الجاهل، ويواصلون مهمة الذين زوروا تاريخنا، مصرين على المضي في طريق النظر الى ما بعد الموت دون أن نعتني بأمر الدنيا.

داعية شغل برامج الفضائيات التي امتهنا بها القيمة العلمية للأقمار الصناعية، يبشر بنصر الله المسلمين على أعدائهم بالدعاء. ولا حديث عن التخلف التعليمي وتدهور الخدمات الصحية وانهيار البنية التحتية، ولا تلميح الى غياب الديمقراطية الحقة التي لا تكتفي بإطلاق الشعارات التي لم نحسن غير ترديدها منذ عهد الانقلابات الى يومنا هذا.

لا يلتفت أحد من هؤلاء الى الأرقام التي لا تحتاج الى تفسيراتهم الملفقة، ولا يعلمون عنها شيئا، ولا يهتمون بأمرها. ذلك في رأيهم سقط متاع وخروج على النص الذي يدعون أنهم حفظته وحماته.

يجب عليهم أن يكتفوا بدعوة الناس الى السلوك السوي، والى قرن العمل الجاد بالدعاء، لكنهم لا يستطيعون ولا يقدرون ولا يرغبون ولا يفيدهم ان يلعنوا المجتمعات التي سبقتنا وتركتنا نعيش في الوهم، الذي لن ينتهي، بأننا خير من على هذه الأرض، وأنه لا ينقصنا سوى عودة غائب يبعث فينا الحياة ويقودنا والعالم معنا نحو الأمان والرفاه، وربما أيضا، الى الارتقاء بالعلم والصحة والخدمات.

أزفت الساعة ووجب على القائمين على أمر الأمة العربية أن يسحبوا حمايتهم لهؤلاء، فالقرآن ليس بحاجة الى من يحميه ولا الإسلام في خطر. بريطانيا العظمى احتلت جنوب اليمن لأكثر من مائة سنة وخرجت دون أن يرتد مسلم واحد عن عقيدته، فلماذا يشغلنا الفقهاء بهذه القضية السخيفة الممجوجة!

على الجميع أن يتحدث صراحة عن ضرورة الفصل بين المسجد والدولة.. فالمسجد مقدس وحرمته لا يستطيع أحد أن يتعدى عليها.. والدولة صراع دنيوي بين قوى تختلف على النصوص ولا تحتج بنصوص سماوية. الدين لا يجوز أن يقتحم خلافاتنا السياسية، وإلا عدنا الى يوم سقيفة بن سعد، ورفع المصاحف على أسنة الرماح، واحتجاج كل فريق بحديث يتناسب مع هدفه الذاتي. دون ذلك ستظل عجلتنا تدور كطواحين الهواء.

* دبلوماسي عربي