لغة جديدة وخطاب مختلف

TT

زارت وفود لمنظمات حقوق الإنسان السعودية، لعل من أهمها ممثل لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة، ومسؤول لمنظمة Human Right Watch، حيث التقوا بالقضاة والمحامين وأعضاء من هيئة التحقيق والادعاء العام، كما أنهم تفقدوا بعض السجون والمنشآت التابعة لها، وطرحوا العديد من الأسئلة والاستفسارات، واستمعوا إلى آراء المختصين حول النقاط المثارة، وأبدوا تفهماً لافتا للجهود التي تقوم بها الحكومة السعودية في هذا الشأن وفق ما جاء في تصريحاتهم.

على أن مثل هذه الزيارات تمثل نقلة نوعية في ما يتعلق بالتعاطي مع هذه القضايا، ودرجة الانفتاح التي تعطي مزيداً من الثقة في طبيعة النظام الجنائي السعودي، الذي ما زال يمثل لغزاً محيراً للكثير ممن يعيشون في الغرب، نتيجة لغياب المعلومة أو نقصانها إن أردنا الدقة.

غير أنني أجد نفسي متفقاً مع ما طرحه الاستاذ عبد الرحمن الراشد، لا سيما في نقطتين، مما أثاره في مقاله حول مسألة التعامل مع هذه المنظمات، أولهما «مهما اختلف حولها وأهدافها، فإنه لا يبرر أبداً رفض التخاطب معها، أو رفض مراجعة القضايا التي تريد طرحها»، وثانيهما «الغموض في شأن تعاطي شأن النزاعات، وكذلك اتباع سياسة إغلاق الباب، يعطيان انطباعات خاطئة قد تبرر حق الشكوى والاستعانة بالمنظمات الخارجية».

وما يؤكد صحة الرأي الذي طرحه الراشد، هو رد الفعل الذي تبين من خلال المؤتمرات الصحفية التي عقدها الزائرون، والتي أكدوا فيها على إيجابية (سياسة الباب المفتوح)، وان ثمة مرحلة انتقالية تعيشها السعودية في ما يتعلق بالمسائل الحقوقية والقانونية والقضائية.

على أن من يتأمل التحولات والمتغيرات، لا سيما في عالمنا العربي، يلحظ أن شعارات ومعاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان قد أخذت، مع مرور الوقت، تمارس تأثيراً حياً على سياسات هذه الدولة أو تلك، والفضل بطبيعة الحال يعود إلى الناشطين أصحاب الإرادة الذين لم يتوانوا في استغلال المناخ العولمي من أجل تكريس مفاهيم التعددية وحقوق الإنسان، فأولئك لم يعد يسيطر عليهم الهاجس الآيديولوجي بقدر ما أن غايتهم هي التوق إلى تنصيب معان إنسانية سامية دون استعباد أو مِنّة وإعطاؤه حقوقه المشروعة.

والحقيقة، أن مفهوماً كهذا، بات يشكل مصدراً جديداً للشرعية لأي نظام، بحيث أنه تحول إلى قانون وواقع بعدما كان شعاراً مثالياً قاصراً على المجتمعات الغربية، ولذا فإنه لم يلبث أن دخل مرحلة جديدة يصار فيها إلى معنى الالتزام، حيث لم تعد تلك الحجج التي نسمعها بين الفينة والأخرى من بعض الدول حول معايير حقوق الإنسان، كونها تتناقض مع مرجعياتها أدياناً كانت أم قوانين.

وهذا يدفعنا ـ بالضرورة ـ إلى الدخول في إشكالية التأصيل لمفهوم حقوق الإنسان، حيث يحاول البعض التقليل من أهمية هذا المفهوم، وأنه يمثل ترويجاً لسلعة من سلع الغرب وفق رؤيتهم، وفي اعتقادي أن تحليلاً كهذا يُعد قصوراً في الفهم وخلطاً للأوراق، لأنني أرى أن مفهوماً كهذا (أي حماية حقوق الإنسان)، يكرس الحرية والمساواة، هو ـ بلا ريب ـ عالمي النزعة، ومن يقول إن حقوق الإنسان في الفكر الغربي الحديث تصدر عن العلمانية، بينما تصدر في الإسلام عن مرجعية دينية، نقول إن كليهما يقومان على مفاهيم وقيم ومبادئ مشتركة وإن اختلفت المرجعية، فالغاية واحدة، والإسلام أقر كرامة الإنسان ورفع من شأنه، وحقق له أفضلية على سائر المخلوقات.

عندما جاءت الثورة الفرنسية (عام 1789)، بإعلان حقوق الإنسان والمواطن، نص على (17) مادة تضمنت مبادئ وقواعد استهلتها بالتأكيد على أن الناس يولدون ويعيشون أحراراً متساوين في الحقوق، وفي هذا السياق نذكر ما قاله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على أن المقام هنا ليس المراد منه دراسة مقارنة ما بين ما ورد في الشريعة وما هو مذكور في القوانين الوضعية، بقدر ما أن المبتغى قوله في انه ثمة قواسم مشتركة تجمعهما، ومنها الحريات المدنية والإنسانية والسياسية، وإن كانت الشريعة الأسبق إلى إقرار تلك الحقوق، حيث ربطت حقوق الإنسان بالعقيدة، وهي ليست منحة، وإنما هي ذاتية يكتسبها الإنسان من إنسانيته، ولذا فهي ملزمة بحكم مصدرها الإلهي.

وبالعودة إلى صلب الموضوع، نجد أن السعودية ـ فعلاً ـ قد بدأت في معالجة الأخطاء، ومحاولة تطوير الأجهزة القضائية والجنائية لا سيما في السنوات الثلاث الأخيرة وما تزامن معها من صدور أنظمة وقوانين تُفعّل النظام الجنائي وآليته، وتكرس مفهوم العدالة من منظور شرعي وقانوني بحت. كما أن السعودية أعلنت قبل سنتين عن عزمها إنشاء هيئة وطنية مستقلة، غير حكومية، تساعد على التعريف بحقوق الإنسان، بالإضافة إلى إنشاء هيئة وطنية حكومية ترتبط مباشرة بالملك (رئيس مجلس الوزراء) ويناط بها كل ما يتعلق بحقوق الإنسان من قضايا إلى جانب إنشاء أقسام تعنى بحقوق الإنسان في الجهات الحكومية ذات العلاقة (العدل ـ الداخلية ـ الخارجية ـ العمل) للعمل على ضرورة تطبيق الأنظمة والقواعد المتعلقة بحقوق الإنسان. ولعل في هذا تفسيراً لقولنا بأن السعودية جاهدة لتطوير ذاتها وأنظمتها وبترحيبها بالحوار البناء وبإعطاء المعلومة لمن يريد، بل وباستماعها للنقد وللملاحظات، مما يساعدها على الإصلاح والمعالجة.

هذا التحول في العقلية، يعطي إشارة إلى تفاعل السعودية مع ذاتها ومع من حولها، وهي بذلك تعقلن سياستها، أي ترتهن إلى المنطق والعقل والمعطيات الراهنة، وتكيّف نفسها على ذلك، وهنا تكمن السياسة (أي فن الممكن).

ولعل مناداة الأمير عبد الله بالإصلاح الذاتي والمشاركة السياسية، ولقاءه بالمثقفين السعوديين ومناقشته لهم حول ورقة المشاركة السياسية، بالإضافة إلى الإعلان المرتقب حول إنشاء منظمة حقوق الإنسان في السعودية، من الإرهاصات الواضحة لتلك الرغبة الجادة في التطوير والتحديث والتفاعل، وهذا يعني في ما يعني الخروج إلى العالم بمجتمع أكثر ثباتاً وبعقلية أكثر انفتاحاً. وتبقى العبرة في إدراك حقائق الأشياء وليس أشكالها، وهنا تكمن الغاية، وهنا يكمن الفرق!.