الفرعنة والحقيقة الكبرى

TT

قال تعالى: «فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى»..

ثمّة من يلخص خطاب حالة الاتحاد الأمريكي بما توحي به الآية الكريمة أعلاه ويقول: لو قُدّر للقرآن الكريم أن ينزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الوقت الراهن، لكان شأن نزول الآية المذكورة هو جورج بوش الابن!.

وقال تعالى أيضاً: «أرأيت من اتخذ إلهه هواه»..

وهنا أيضاً ثمة من يُلخّص حالة عراق اليوم المبتلى بما توحي به الآية الكريمة أعلاه، ويقول: لو قدّر للقرآن الكريم أن ينزل على رسولنا الخاتم في الوقت الراهن لكان شأن نزول الآية فيه هو صدام حسين!.

هذه هي حقيقة حال العالم للأسف الشديد!، استقطاب عنيف وحاد بين «طاغية» أطلق العنان لهواه حتى بات هو «الإله» الذي يعبده، و«آخر» بات وريثاً لمن صنع وربّى وحمى وساند ورعى الطاغية الأول على مدى أكثر من ثلاثة عقود، لكنه وعندما «تحدّاه» في عقر داره، كما يقول، وباتت مصالح «ربوبيته» تتعرض للخطر، قرر أن يُعلن «فرعونيته» في «خطاب الاتحاد» ولسان حاله يقول: «أفآمنتم قبل أن آذن لكم»!، كما قال فرعون لجنوده وعماله وحاشيته.

وحدها ألاعيب السياسة وأحابيلها وتضاريسها المعقدة تريد تشويه الحقيقة من حولنا، فيما يخص ملف العراق، كما يقول غالبية الناس من عراقيين وعرب ومسلمين.

فالعراق الحالي كما هو عليه في هذه اللحظة التاريخية من محنة ومعاناة ومظالم وحصارات متعددة ومتداخلة، إنما حصل له ما حصل أولاً وقبل كل شيء، بسبب تدخل العامل الأجنبي في شؤونه الداخلية، ودعم القوى الدولية الظالمة لحكم الاستبداد والطغيان فيه على مدى العقود الثلاثة الماضية، كما يقول غالبية أهله. وأيضاً كما يعرف ويتحدث في المجالس الخاصة غالبية صناع القرار العالمي، إن لم يكن جميعهم في المنطقة والعالم على حد سواء.

ليس صحيحاً على الإطلاق، بأن الطغيان الذي تشير إليه أصابع الاتهام اليوم باتجاه العراق، والذي يبدو أن «حزماً دولياً ما» يتبلور لإنهائه، سببه أو مرده «ثقافة» أو «فكر» شرقي أو إسلامي، ولا حتى قومي عربي، بل ان السبب الأساسي له هو سيادة حكم معادلة الغلبة والهيمنة الاستعمارية على بلادنا.

منذ 34 عاماً، والعراقيون جميعاً يعرفون، بل ويلمسون، وكل شعوب العالم تعرف، لا سيما تلك المجاورة للعراق، بأن الحامي الأكبر، بل والصانع الأساسي لمعادلة الظلم «العراقية»، هو المعادلة البريطانية ـ الأمريكية المباشرة. فما عدا مما بدا حتى قررت هذه المعادلة نفسها اليوم، التخلص من «صناعتها».

هل هي صحوة ضمير؟ أو من أجل «تحرير» شعب العراق، وما إلى ذلك من شعارات رنانة ترفع اليوم على مدار الساعة كلما اقتربنا من ساعة الحرب المرتقبة!.

إن كل عراقي وكل عربي وكل مسلم تعرض لظلم «الطاغية»، الذي تحشد القوة العظمى الأمريكية اليوم لإزاحته، يعرف تماماً، بل ويلمس بجلده ولحمه ومعاناته النفسية والروحية، مذاق ونكهة المعادلة البريطانية ـ الأمريكية، فيما لاقاه من «طاغية» العراق وزبانيته.

فأنا شخصياً، اغتالت المخابرات العراقية أخي وقتلت صواريخ طغيانه وحربه أختي، واعتقلت زبانيته خالي وابنه وأولاده الثلاثة، وهم مدنيون ضيوف على العراق لا يتدخلون في السياسة أصلاً، لا لذنب اقترفوه، إلا لأن «الطاغية» المدلل من جانب «فرعون» العصر، كان يراد له «تأديب» إيران ومنعها من تحقيق مهمة التحرر من إرادة الأجنبي.

عقدان كاملان والإدارات الأمريكية المتلاحقة ومعها كل الشركات المتعددة الجنسية، ومنها الأوروبية المباشرة، بما فيها التي تتخوف من الحرب على العراق اليوم، دفاعاً عن مصالحها، كانت هي المخزون الاستراتيجي لما يسمونه اليوم بأسلحة الدمار الشامل، المتدفق على حكومة «الطاغية»، ليقتل شعبه وجيرانه «العجم» والعرب على حد سواء.

فلولا دعم شركاتهم ومخابراتهم وجيوشهم الأمنية، لما كانت حال فلسطيننا، ولا حال أمتنا، ولا حال بغدادنا، ولا حال عراقنا، ولا حال أمتنا، ولا حال أقطارنا، كما هي عليه اليوم، فقيرة معدمة عليلة، فاقدة لزمام المبادرة «تنتظر» المخلص القادم من وراء البحار، لينعم عليها أو «يمنّ» عليها، بالديمقراطية والحرية والرفاهية والتنمية.

ومع ذلك، فإنها الخديعة الكبرى، بل خديعة العصر العظمى، باعتراف كبار العلماء والمفكرين والمحللين السياسيين الأمريكيين والأوروبيين قبل أن تكون من مزاعمنا أو ادعاءاتنا.

إنه قرار تلك الأقلية «المتفرعنة» وريثة إنجازات الحرب الباردة المتحالفة مع اللوبي الليكودي لتحويل بلادنا إلى ساحة رماية وحقول تجارب و«لعبة أمم» جديدة لطرد المنافسين الأوروبيين والروس والصين واليابانيين من مواردنا وخبراتنا والتحكم بقرار ومستقبل أنظمتنا، ومرة أخرى باعتراف وإقرار علماء الغرب ومنهم الأمريكيون قبل أن يكون ذلك من عندياتنا.

إن حاجة بلداننا ومنطقتنا للسلم والاستقرار والحياة الكريمة، تدفعنا إلى القول: لا للحرب من أجل النفط، ولا للحرب من أجل تأمين الهيمنة والاستعلاء وحكم «فرعون» العصر على العالم.

لا، بل وألف لا، لأن تتحول بلادنا إلى ميدان وحقل تجارب ورماية لصناعة مستقبل الآخرين مقابل هدم مستقبلنا. ولا وألف لا، لأن تتحول شعوبنا أو خيراتنا أمانة في «صندوق ودائع» كولن باول أو غيره، فنحن أمة جديرة بأن تصنع مستقبلها وتحدد مصيرها بنفسها.

وإذا كانت الإدارة الأمريكية والدول العظمى تريد حلاً عادلاً لقضية العراق وسائر قضايانا فعلاً وحقيقة، وأنها تريد محاربة الإرهاب والتطرف فعلا بعد أن اكتوت به مباشرة وسكتت عنه دهراً، لأن شعوبنا كانت تكتوي به لوحدها... إذا كانت قد استيقظت فعلاً وتحرك وجدانها وانتبه ضميرها، ولو بعد لأي، فما عليها إلا أن ترفع الدعم والإسناد اللذين ظلت تقدمهما إلى مصادر الإرهاب الحقيقية في المنطقة ومنها إسرائيل العنصرية التي حولتها إلى حاملة طائرات ثابتة جاثمة على صدرنا، إلى جانب من تريد التخلص منهم من «طغاة»، عندها سيرى العالم كيف أننا أمة جديرة بالعيش بكرامة، رغماً عن أنف «الطغاة» و«الفراعنة».