مافيات ورقابة

TT

بدل الواحدة اشتريت طبعتين لرواية زوربا اليوناني من معرض القاهرة الدولي للكتاب، نكاية بالدار التي سربت لوكالات الأنباء خبراً يؤكد مصادرتها من قبل الرقابة، مع «خفة الكائن..» أشهى روايات كونديرا، ولم يكن ذلك دقيقاً ولا صحيحاً، لكنها حركات كاذبة اعتادت عليها بعض دور النشر للترويج، فالممنوع مرغوب، وقل للناس ان الرقابة منعت أسخف وأتفه كتاب، وسوف يذهبون لشرائه فما بالك حين يكون الخبر متعلقاً برواية معروفة ورقياً وسينمائياً وعاطفياً، فمن ذا الذي ينسى قصة ذلك الحب البائس الذي ينتهي بالقتل في جزيرة متوحشة يلطمها موج البحر ويجفف الكبت أرواح نسائها ورجالها.

ان مشكلة الكتاب هذا العام في معرض القاهرة كانت مع الدولار وليس مع الرقابة، فقد جرى تعويم الجنيه المصري في الأيام الأولى للمعرض، وانتهزها الناشرون فرصة لرفع الأسعار مع أن تكلفة نشرهم ونقلهم لم تزد لأنها حدثت قبل التعويم، لكن هؤلاء القوم من «ملة الناشرين» من أخبث أنواع التجار، فهم يضحكون على المؤلف، وعلى القارئ، وعلى الرقيب، ولا تجلس مع واحد منهم إلا ويقول لك «الكتاب لا يجيب ثمنه»، فإن سألتهم لماذا تستمرون إذن؟.. قالوا وبراءة الأطفال في أعينهم: «من أجل خدمة الثقافة العربية».

ولا تصدقهم في هذه، فالثقافة في آخر سلّم الاهتمامات عندهم، لكنهم تجار شطار وبعضهم بلا ذمة ولا ضمير في بعض الأقطار، فهم يأخذون الورق المدعوم حكومياً، ولا يدفعون للمؤلفين، ويحصل بعضهم على تخفيضات شحن، لكنهم يستمرون في الشكوى، فقد صارت الشكوى عادة عندهم كعادة بث أخبار كاذبة عن مصادرة كتب بعينها.

وهذا الحديث ليس دفاعاً عن الرقابة التي يفترض ألا توجد أصلاً، لكن عشاق الكتب يعرفون مكان الممنوع وزمانه وثمنه، ويحصلون عليه دون أن يحسّوا بأي إثم، وهو ليس دائماً تحت الطاولة كما تظن فرق المصادرة المدربة، ولكن فوقها، ومن اعتاد على ترويجه تعود على إخفائه وابتكار أساليب لمعرفة زبائنه في كل بلد. فريادة معارض الكتب حالة اخوانية مكررة يسهل على من يلاحظها ان يعرف اخوانه وزبائنه فرداً فرداً وأحياناً يوصل لهم الطلبات إلى المنازل بسيارة الرقيب ذاته.

لقد جعلت الرقابة الممنوع مرغوباً لأنها لا تمنع إلا الجيد، وهذه حالة معروفة في العالم، وقد كانت إدارة الفاتيكان تصدر في عهد كل بابا قائمة بالكتب التي لا تجوز قراءتها، فيترك القراء كل الكتب الأخرى، ويذهبون للبحث عما هو مسجل في تلك القائمة الكنسية ومن هذا الإجراء نبع المثل الشعبي الروماني، «ما تمنعه روما جدير بالقراءة».

وإذا كنت في روما، فافعل كما يفعل الرومان، وقد فعلت فارتديت زرد المعرفة، وخوذة الخبرة، وامتشقت حسام شهوة القراءة الجيدة، وحصلت على كل ما أريد من ممنوعات دون أن يرمش لي جفن أو أحس بإثم، فكل الدنيا مقتنعة بأن الرقيب انتهت صلاحيته والرقابة مهنة منقرضة في عصر تجد فيه على «الإنترنت» ما تريده من العري، والشتائم السياسية، وكتب تصفية الثارات بين الفصائل والحكومات، لكن هات من يقنع الأخ الرقيب أنه يقاتل معركة خاسرة، فلا أحد في النهاية يسلم رايته، ويحيل نفسه إلى طابور البطالة بإرادته.

وحين تلعنون الرقيب، وأساليبه، تذكروا أن تلعنوا أساليب بعض الناشرين، فهم أخطر على الكتاب الجيد منه، ومعظمهم هذه الأيام لا يطبع غير كتب طبيخ وسحر، وتنجيم، بالإضافة إلى تلك الكتب المذهبة الضخمة التي يشتريها زبائنها لديكور المنازل، فشهوة الظهور كمثقفين عقدة تتحكم برجال الأعمال الذين يقتنون تلك الكتب الجيدة المظهر، ويصمدونها، ونادراً ما يمدون إليها يداً فالذي طبعها ونشرها ووزعها وحملها أو طلب أن تُحمل إليه يعرفون جميعاً أن تلك النوعية للديكور، وليست للقراءة، ومن يقدم على تلك الأساليب يخدم تجارته الشخصية، وليس الثقافة العربية، فهلا توقفنا قليلاً عن المتاجرة بوهم المصادرة وعن التشدق بالكلام الكبير في مسائل صغرى لا تهم غير حفنة من مافيات النشر التي تشجعنا على لعن الرقيب، وهي ألعن وأضل سبيلا، وما على أولئك الذين يكتفون بالهجوم على الرقابة، إلا الانتباه للصورة الشمولية حولهم، فمافيات النشر والرقابة شران يجب استئصالهما معاً لأنهما من أرومة واحدة.