ملاحظات الطريق

TT

ذهبنا، زوجتي وأنا، الى مطار شارل ديغول مسافرين الى لندن، فاذا الثلج يعطل أوروبا والرحلات ملغاة. وقد نصحتنا الشركة بأن نستقل القطار، فعدنا الى باريس لكي نبدأ الرحلة من «محطة الشمال»، والشمال في أوروبا، كما في أي مكان آخر هو باب البرد. وثمة شاعر شعبي لبناني قديم كتب، قبل عشرات السنين، اغنية لراقصي «الدبكة» يقول مطلعها: «على دلعونا وعلى دلعونا، الهواء الشمالي غيَّر اللونا». وواضح طبعا ان «اللونا» قد تغير من شدة البرد.

في القطار فعلت ما يفعله جميع ركاب القطارات المواجهين لبعضهم البعض. أي حرصت على التطلع من النافذة، لكي لا ابدو وكأنني اراقب الآخرين. فالحكمة تقول «من راقب الناس مات هما». وانا اترك هذا النوع من العذاب للحاسدين الذين يضربون رؤوسهم بكل جدار. ومن النافذة بدا لي عالم غير عالمي. اراض شاسعة تزرعها وتحصدها الآلات، وليس الفلاحات الحوامل اللاتي يعملن في الحقول طوال النهار وفي الاكواخ طوال الليل، بينما الازواج يتعرقون تعبا في المقاهي وقرقرة النراجيل.

وكانت تملأ الطرقات السريعة سيارات شاحنة من النوع الهائل الحجم، التي تنقل بين المدن والبلدات، شتى منتوجات الصناعة او الزراعة. وعلى هذه الطرقات المماثلة في العالم العربي، لا اثر لأي عمل صناعي. هناك مئات الآلاف من سيارات الاستهلاك وليس هناك سوى الضئيل الشاحب من علامات الانتاج. وهذه ظاهرة غير صحية، لأن عدم بلوغ العصر الصناعي يعني اننا لا نزال في زمن الاتكال. ويعني ان أمننا الزراعي والانتاجي في يد سوانا. واذا ما قارنا خطر شح المياه الذي بدأنا نواجهه، بخطر الاتكال شبه المطلق على الاستيراد شبه الكلي، نستطيع ان ندرك أي حال هي حالنا. لكننا لن ندرك لأن الاوضاع السياسية تنقلنا من غيبوبة الى غيبوبة. ولأننا بذلنا كل شيء من اجل الحصول على «السيمتكس» ولم نبذل شيئا للحصول على جرار زراعي، الا ما اعطي لنا مساعدات او هبات. وما نسميه «صناعات» في بعض العالم العربي هو عبارة عن تجميع لمصانع استوردت من الخارج ببراغيها ملفوفة بورق السيلوفان. وحتى هذه المصانع نعتمد في اصلاحها على «خبراء من بلاد المنشأ».

اتطلع من نافذة القطار الذي يسير بسرعة 300 كلم في الساعة، فأرى امامي عالما يتحرك في كل اتجاه: طرقات نظيفة كأنها تغسل كل يوم حتى لو كانت في اقاصي الريف. وقوافل لا تنتهي من الناقلات البرية. وآلاف السيارات التي تنقل اصحابها من او الى عمل ما، برغم تزايد البطالة. ان الآلة تأخذ الكثير من درب الانسان لكنها تقدم له مئات الاضعاف مما تأخذ. وها هو هذا القطار الطويل الطويل يحمل مئات البشر بسرعة الطائرة تقريبا، بينما نحن في العالم العربي لا نعرف القطار العابر الدول حتى الآن. اننا نخاف من تدفق الفقراء وطالبي العمل (بالاضافة الى طالبي اللجوء السياسي) لأنه ليس لدينا عمل حتى لعمالنا. ولا ما يكفي من الرزق. اما هذه المجتمعات الصناعية فتعرف ان «اللاجئين» هم فقط القادمون من دول لم تدخل عصر الانتاج بعد. من أوروبا الشرقية التي كانت تطعم خطب تشاوشسكو وعزيزته ايلينيا. من ألبانيا التي وعدها أنور خوجا بالنعيم ولم يكن فيها سوى دراجات هوائية. من بولونيا التي يعمل اساتذتها السابقون نوادل في مقاه وفنادق في باريس. سمعت قبل اسابيع ان فيتنام رفعت رواتب الموظفين الى 300 ألف «يون» في الشهر. أي 20 دولارا. الدولة التي تباهي بأنها هزمت أميركا، يهزمها الفقر والتخلف وجمع محاصيل الأرز بالأيدي. والجزائر التي سجلت أولى بطولات الحرية المعاصرة، لا تزال بعد 40 عاما من الاستقلال تعتمد اكثر ما تعتمد على الدخول القادمة من فرنسا. والمساعدات. اما الحل الآخر الذي يطرح عليها، فهو ذبح الاطفال او تفجير المدن. واتطلع من النافذة، فأرى بلادا ليس فيها شيء من خيرات الجزائر، ولا من ثرواتها الطبيعية، لكنها مليئة بقوافل الانتاج.