جان بيدل بوكاسا وشركاه (4) حِكَم من كتاب دوفالييه

TT

لا اطيق «افلام الرعب». وذات يوم، في جنيف وبرودها النفسي، كنت غارقاً في ضجر المستوحدين عندما مررت باحدى دور السينما العتيقة، فلفت نظري عنوان الفيلم: «المهرجون». واعتقدته فيلماً مضحكاً، فدخلت. كان ذلك اواخر الستينات. وكانت الصالة شبه خالية، مثل جنيف، لكنني وجدت نفسي امام فيلم مقزز مخيف مأخوذ من رواية غراهام غرين التي تحمل الاسم نفسه. وتدور احداث الرواية في بور او برانس، عاصمة هاييتي، ايام الديكتاتور الراحل فرانسوا دوفالييه، الملقب «بابا دوك». وتصور فصولاً من حياة السحر والشعوذة التي تسود البلاد، والتعذيب الذي يخضع له الناس، وملاحقات «المتطوعين» للبشر. ويعرف المتطوعون باسم «تونتون ماكوت». كان دوفالييه صورة لظلاّم القرون الوسطى، وقد قضى تحت التعذيب ايامه نحو 40 الف رجل ونفى نحو مليون وكان الدخل الرئيسي للبلاد يأتي من بنوك الدم التي تصدر الدماء الى الولايات المتحدة. عندما مات فرنسوا دوفالييه عام 1985 حل مكانه ابنه جان كلود، الذي كان في التاسعة عشرة من العمر. وقد انتخب على الفور رئيساً مدى الحياة، بأكثرية 98.8 في المائة. وبعد نحو اربعة اعوام خلع في انقلاب عسكري اعقبته الفوضى، فتدخل الاميركيون واجروا انتخابات عامة فاز فيها الكاهن برتران اريستيد الذي امضى عاماً فقط ثم اعيد انتخابه عام 2000. وأهل هاييتي يشعرون الان بحنين شديد الى ايام دوفالييه الأب والابن.

في باريس يلتقي مؤلف «كلام الشيطان» جان كلود دوفالييه وزوجته الفرنسية الجديدة فيرونيك، وكانت زوجته الاولى، ميشيل، وهي عارضة سابقة عملت لسنوات في نيويورك، قد تركته الى مصيره بعدما قضت على آخر فلس حمله معه الى بنوك سويسرا. وراح دوفالييه الابن يعيش على الصدقات التي يتبرع بها المهاجرون الهاييتيون. وكان يذهب الى منازلهم ليقضي شهوراً عندهم، هو وزوجته. وفي البداية قررت فرنسا ان تبعده الى اي بلد افريقي، لكن احداً لم يرحب به. ليس وهو خالي الوفاض وبلا حسابات سويسرية. ولذلك تغاضت السلطات الفرنسية عن وجوده، واعتبرته مشرداً «بلا اوراق»، الا انها عادت وخصصت له راتب لاجئ سياسي، ولم يعد مضطرا لانتحال اسم «المسيو فالير» عندما يتنقل من فندق الى آخر، غالباً تقدمة من احد سائقي التاكسي الباريسيين، الذين هاجروا من هاييتي، حيث عملوا في السحر والمخابرات والمطاردة.

كان عرس جان كلود دوفالييه من زوجته السابقة ميشيل، عام 1980، قد كلف 3 مليارات دولار. وقد عملت ميشيل بسرعة على ترتيب الامور. طردت اقرباءه من القصر وادخلت اقرباءها. واصبح والدها، ارنست، واحدا من 25 شخصاً فقط يسمح لهم بتصدير البن. لكنه وحده كان معفى من الضرائب. وتقول الـ«واشنطن بوست» ان تجارة البن كانت واجهة، اما عمله الحقيقي فكان تجارة الكوكايين الكولومبي. وقد اوقف شقيقها، فرانز، في بويرتوريكو بتهمة مشابهة.

في شوارع هاييتي كانت الناس تموت من سوء التغذية او برصاص جلادي دوفالييه. وقدرت وزارة التجارة الاميركية آنذاك ان 63 في المائة من دخل البلاد يذهب الى اعوان دوفالييه. وعام 1980 قدم البنك الدولي لهاييتي قرضا بعشرين مليون دولار، ذهب برمته الى «المؤسسة» التي تديرها ميشيل.

عندما تخلت عنه ميشيل، التي احبها كما احب بوكاسا «الامبراطورة كاثرين»، لم يبق له سوى القليل. وبين ما بقي كتابان من تأليف والده، الاول بعنوان «مذكرات زعيم من العالم الثالث» والثاني «شجاعة ثورة». والثاني طبعاً خواطر لصاحبها على طريقة «الكتاب الاحمر» لماو تسي تونغ. فقد كان شائعاً في تلك المرحلة ان يبرر كل شيء بكتاب، بما في ذلك قول دوفالييه المأثور «لا بأس بأن تقتل روحاًَ لكي تنقذ روحاً اخرى». وفي عملية حسابية بسيطة يمكن ان تقتل نصف الشعب من اجل ان تنقذ نصفه الاخر. الحمد لله لم يضع دوفالييه الأب كتباً اخرى، اما الابن فهو مهتم الان بدراسة الطاقة الشمسية. نعم؟ اجل. ولكن من اجل تحقيق ثورة علمية في هاييتي. الى اللقاء.