السجل الأميركي حافل بالتلفيق لتسويغ الاجتياح العسكري

TT

لا أعرف كم عدد الذين لم يستطيعوا أن يكتموا ابتساماتهم وهم يتابعون وزير الخارجية الأميركي كولن باول، وهو يتحدث باستغراق وثقة شديدين عن خطورة العراق على أمن العالم وحضارته، لكنني أزعم ان عددهم ليس قليلا، ولا أنكر انني واحد منهم، إذ ليسوا قليلين الذين يعتقدون بأن الحرب المرتقبة لا علاقة لها بتهديد العراق للسلم والأمن في العالم، وما قد يملكه أو لا يملكه من أسلحة للدمار الشامل، وإنما «السر المعلن» هو أن النفط هدفها الأول وليس الأخير، ولو لم تكن هناك حكاية أسلحة الدمار الشامل لاخترعوا ذريعة أخرى لتحقيق المراد، والذين يدركون تلك الحقيقة يعلمون ان الفريق الحاكم في الولايات المتحدة، وعلاقاته بالنفط وشركاته وفي المقدمة منهم الرئيس بوش ونائبه تشيني ليست خافية، هذا الفريق يحاول كسب الرأي العام الاميركي خاصة والغربي عامة، بأنها حرب «عادلة»، تستهدف تخليص البشرية من ذلك الوحش الكاسر القابع في بغداد.

أما من كانت لهم دراية بسجل التلفيق والألاعيب الاميركية فأغلب الظن انهم استلقوا على أقفيتهم من الضحك، وهو ما حدث لجماعة منهم أعرفهم، ما ان انتهى الوزير الاميركي من حديثه الى مجلس الأمن حتى سأل بعضهم: ماذا كان يمكن أن يحدث لو ان باول صارح أعضاء مجلس الأمن بالحقيقة، وفاجأهم بقوله ان الولايات المتحدة اضطرت لتلك الحرب، لأن تطلعاتها الامبراطورية ما كان لها أن تتحقق إلا اذا اتخذت خطوات معينة، منها السيطرة على منابع النفط ومصادر الطاقة. ولأن اسرائيل لها مخططاتها ومصالحها، وكان لابد من الاستجابة لها، لأن الرئيس بوش يريد أن ينتخب لولاية ثانية بأي ثمن.

الذين اكتفوا بالابتسام، أو الذين استغرقوا في الضحك معذورون، ذلك ان سجل تلفيق المعلومات وانتقالها لتحقق أهداف سياسية أو عسكرية بذاتها أمر ليس مستغربا في الممارسات الاميركية، التي تعنينا في الوقت الراهن، والشواهد التي تدل على ذلك بلا حصر.

لقد نشرت مجلة «نيوزويك» (عدد 12/2/2002) تقريرا لافتا للنظر عن الكيفية التي وظفت بها الادارة الاميركية المبالغة في حجم تنظيم «القاعدة»، سواء للتخويف من خطره وتبرير الحملة ضد الإرهاب، أو لتبرير مطالبة الكونجرس بتخصيص ميزانية كبيرة للأمن الداخلي، وطبقا لما ذكرته المجلة الاميركية فإنه حين كان الرئيس بوش يستعد لإلقاء خطابه عن حال الاتحاد، صرحت مستشارة البيت الابيض كارين هيوز للصحافيين بأن خطاب الرئيس سيتضمن معلومات مذهلة، منها ان مائة ألف شخص تم تدريبهم كقتلة في معسكرات أفغانستان، وانهم انتشروا لاحقا في أنحاء العالم، وفي المسودات النهائية للخطاب أشير الى ان هؤلاء «القتلة الخطرين» (المائة ألف) تحولوا الى قنابل موقوتة مبثوثة في أرجاء الكرة الأرضية، غير ان مسؤولي المخابرات المركزية سارعوا حين علموا بالخبر الى ابلاغ البيت الأبيض بأن الرقم مبالغ فيه الى حد كبير، وان معلوماتهم تشير الى ان عدد المتدربين عسكريا في افغانستان يتراوح بين 15 و20 ألفا، أي في حدود خمس الرقم الوارد في مسودة خطاب الرئيس، في حين ذكر بعض المحللين في الاستخبارات ان الرقم الحقيقي أقل من 15 أو 20 ألفا بكثير (نقلت المجلة عن الأمير تركي الفيصل الرئيس السابق للمخابرات السعودية ان التقديرات التي لديه تقول ان عددهم ما بين 2000 و3000 شخص، ونقلت «المجلة» أخيرا في 8/2/2002 على لسان رئيس المخابرات الباكستانية آنذاك حميد غول ان العدد لا يتجاوز خمسة آلاف مقاتل).

بسبب ذلك التضارب في المعلومات جرى تعديل نص خطاب الرئيس بوش، بحيث اسقط رقم 100 ألف، واستبدل بعبارة «عشرات الآلاف من المدربين»، وكان ذلك خطأ أيضا، لكن الخطاب سرب معلومة أخرى مغلوطة، فقد ذكر الرئيس ان القوات الاميركية في افغانستان اكتشفت «رسومات لمحطات طاقة نووية اميركية، ومنشآت مياه عامة»، اضافة الى «تعليمات مفصلة لصنع أسلحة كيميائية»، ولكن مسؤولي المخابرات المركزية اعتبروا ان ما قيل يمثل مبالغة غير مبررة، لان معظم المعلومات التي اشار اليها بوش كان قد تم تنزيلها من الانترنت وهي في متناول كل أحد.

خذ أيضا تلك الشهادة المثيرة التي نشرتها «الشرق الاوسط» في 5/7/2002 لآخر اميركي لدى الخرطوم، تيموثي كارني، وقد اشترك معه في كتابتها مسلم أميركي من أصل باكستاني هو منصور المحاز، الذي كان يعمل خبيرا ماليا واقتصاديا، واستمر في نقل الرسائل بين العاصمتين الاميركية والسودانية، فقد ذكر الاثنان في شهادتهما ان سحب الدبلوماسيين الاميركيين من الخرطوم في 1996 «حرصا على سلامتهم» تم بناء على تقارير استخباراتية مغلوطة أو مختلقة، وقد ادركت المخابرات المركزية ذلك، فقامت بشطب أكثر من مائة تقرير لديها عن السودان لكن الدبلوماسيين لم يعودوا الى الخرطوم.

تحدثت الشهادة عن الفشل الاستخباري الاميركي في السودان، الذي ادى الى قطع العلاقات بين البلدين دون مبرر، كما ادى الى قصف مصنع للأدوية في الخرطوم، ادعت واشنطن انه كان يستخدم لانتاج اسلحة كيماوية، في حين ان الادارة الاميركية لم تكن لديها أية معلومات ولو أولية عنه ولكن القصف تم استنادا الى المعلومات المكذوبة والمشبوهة التي روجت لها بعض عناصر اجهزة المخابرات الاميركية.

ومن ذات السجل ننتقي هذه القصص الثلاث.

ـ في عام 1971 نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مجموعة من الوثائق العسكرية السرية حول حرب فيتنام، الامر الذي ازعج كثيرا ادارة الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون، فتدخلت لوقف النشر، ولكن مجلس القضاء الأعلى أيد موقف الصحيفة، وأمر بمواصلة نشر الوثائق التي عرفت باسم «أوراق البنتاجون». وكان المصدر الذي سرب الوثائق هو أحد الخبراء الذين اشتركوا في وضعها، واسمه دانيال ايلسبرج.

اعترف دانيال بأنه بناء على تكليف القيادة السياسية والعسكرية في وزارة الدفاع، عكف في عام 1965، على اعداد مجموعة من القصص التي تتهم الفيتناميين بارتكاب المجازر. وكان الهدف من ذلك هو تبرير استخدام اسلحة التدمير الأميركية ضدهم. وقد اعترف الرجل بأن كل القصص التي أعدتها، وروجتها وسائل الاعلام الأميركية لم تكن صحيحة، وكانت جميعها من صنع مخيلته، وأنه استناداً الى تلك المجازر الوهمية، ردت القوات الأميركية بارتكاب سلسلة من المجازر الحقيقية.

وجد ايلسبرج ان العمل الذي قام به أدى الى تضليل الرأي العام الأميركي والرأي العام العالمي من جهة، وتغطية الجرائم الجماعية المرعبة التي ارتكبتها القوات الأميركية وفي يقظة ضميرية أراد أن يسترضي ضميره المعذب فسرب الوثائق بالغة السرية الى الصحافة اعتقاداً منه أن ذلك سوف يساعد على تسريع وقف الحرب.. وبالتالي على انقاذ أرواح بشرية أميركية وفيتنامية كثيرة.

من الوثائق التي سربها أيضاً، اعترافات لوزير الدفاع الأميركي في ذلك الوقت روبرت مكنمارا رددها وهو في طريق عودته الى واشنطن بعد تفقد القوات الأميركية في فيتنام الجنوبية، قال فيها: «ان الوضع على الأرض أسوأ وأخطر مما يبدو لنا». مع ذلك فما أن حطت طائرته في القاعدة العسكرية بواشنطن حتى أعلن «أننا نحقق تقدماً كبيراً في كل ميدان من ميادين القتال».

إذ ذاك أدرك ايلسبرج أن قرار تصعيد الحرب في عهد الرئيس ليندون جونسون كان يعتمد على معلومات كاذبة وعلى إخفاء الحقائق عن الرأي العام. وحتى عن الكونجرس. فكان قراره بالكشف عن الحقائق لقطع حبل الكذب. ومن ثم لتصفية أي تبرير بالتصعيد العسكري وحتى باستمرار الحرب.

عندما نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» «أوراق البنتاجون» اتهم ايلسبرج وحوكم وحكم عليه في عام 1971 بالخيانة وسرقة ممتلكات للدولة. ولكن الحكم سرعان ما تهاوى في عام 1973 عندما غرقت الادارة الأميركية في ذلك الوقت في وحول من الفضائح السياسية والعسكرية حول حرب فيتنام فتحول الرجل الى بطل وطني.

ـ في شهر أغسطس 1964 ادعى الرئيس جونسون أن مدمرة أميركية في خليج «تونكين» تعرضت لهجوم فيتنامي شمالي، الأمر الذي اعتبره تهديداً خطيراً للأمن القومي للولايات المتحدة. ولمواجهة ذلك التهديد فانه استصدر من الكونجرس قرارا وافقت عليه الأغلبية عرف باسم الخليج المذكور. وبمقتضى القرار أعطي الرئيس صلاحية ارسال الآلاف من جنود القوات البرية الى فيتنام لصد الخطر المزعوم. وكانت تلك بداية تدفق القوات واستمرار تزايدها، حتى بلغ عددها خلال بضعة أشهر أكثر من نصف مليون جندي، غرقوا في مستنقع الحرب الفيتنامية على النحو الذي يعرفه الجميع. غير أنه تبين فيما بعد أن قصة الاعتداء على المدمرة الأميركية في خليج تونكين لم تكن سوى أكذوبة سياسية. وهو مادفع الكونجرس بعد اكتشافها الى اصدار قانون «سلطات الحرب»، لتقييد حرية الرئيس في أي تحرك عسكري إلا بعد التشاور المسبق مع الكونجرس.

ـ القصة الثالثة اخترعها الثنائى فوري ـ كيسنجر في شهر مايو من عام 1975، وعرفت باسم حادثة سفينة الشحن «مايا جويز» التي كانت الحكومة الثورية الكمبودية قد احتجزتها في مياهها الاقليمية. فقد وجدت ادارة الرئيس فورد في ذلك الاحتجاز فرصتها الذهبية لكي ترد الاعتبار للولايات المتحدة بعد مهانة هزيمتها في فيتنام، التي مرغت كرامتها في الوحل. فماذا فعلت؟

ادعت الادارة الأميركية أن أمن البلاد أصبح مهدداً، وأعربت عن غضبها الشديد ازاء ما اعتبرته عدواناً على المصالح الحيوية الأميركية. ولكي ترد العدوان المفترض، فانها شمرت عن سواعدها واستعرضت عضلاتها وانهالت على الكمبوديين قصفاً وضرباً بقسوة مبالغ فيها كثيراً. وكأنما أرادت أن تبعث الى الجميع برسالة تؤكد لهم أن القوة الأميركية ما زالت تحتفظ بجبروتها (هل يذكرك ذلك بما حدث في أفغانستان بعد الهجوم على مركز التجارة العالمي؟).

وهي تنتقم وتثأر لكرامتها سيرت القيادة الأميركية قواتها البرية والبحرية والجوية ضد جزيرة صغيرة باسم «تانج» لاتكاد ترى على خريطة بحر سيام، وانقضت عليها حتى دمرتها. ولاحظت احدى الصحف اليابانية المفارقة، فسخرت من العملية، كتبت قائلة أن أميركا كانت كمن يريد اصطياد دجاجة بمدفع.. ليس ذلك فحسب وانما انتابت القوات الأميركية وهي تنتقم من الكمبوديين مايشبه اللوثة، فقامت بانزال بعض جنودها على جزيرة غير تلك التي احتجزت عندها سفينة الشحن، وأغارت على بعض القوارب المتحركة التي كانت تابعة للقوات الأميركية (حدث ذلك أيضاً في أفغانستان مع قواتهم البرية). واستمرت في الضرب العنيف حتى بعد عودة السفينة الأميركية وبحارتها بطريق الصدفة الى قواعدهم سالمين.

لقد كان استعراض القوة العسكرية الأميركية واسترداد الهيبة المضيعة هو الهدف الحقيقي للعملية، ولم يكن فورد ووزير خارجيته كيسنجر مشغولين كثيراً بانقاذ السفينة المحتجزة ولا طاقمها. وهو ماعبر عنه كيسنجر لاحقاً في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي لبحث الأزمة حين قال «إن انقاذ السفينة كان أمراً ثانوياً».

ولا يتسع المقام لتقليب كل صفحات السجل الحافل بحالات التلفيق والافتعال والاستباق التي لاتعرف حدوداً ولا تخضع الا لمعيار «الغاية تبرر الواسطة»، بوسعنا ان نتساءل: هل يقدر لنا أن نشهد افتضاح الأكاذيب في المشهد الذي نحن بصدده، واكتشاف الدوافع الحقيقية وراء الحرب المرتقبة، أو وراء ما سمي بالحملة الدولية ضد الارهاب؟