خلطة زوال

TT

تشجعنا واحدة من الروايات التراثية على الافتراض بأن عبد الملك بن مروان كان اكثر وعيا بسياسة الجماهير من الخليفة الاموي المؤسس معاوية بن ابي سفيان، الذي «صرعونا» بشعرته التي لا تنقطع، فقد قيل، والعهدة دائما على الراوي، ان الوليد بن عبد الملك الذي ينسبون اليه كل موبقة في التاريخ سأل والده ذات يوم قائلا: يا أبت ما السياسة..؟

فقال عبد الملك: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع... وكان موقف معاوية الذائع يتلخص في استمالة المؤثرين دون تفكير بالرعاع، فهم حسب نصيحة الاحنف بن قيس التي عمل بها «ان جاعوا ساموا، وان شبعوا ناموا»، ثم تأتي المرونة التي افتقدها من جاء بعده، وكانت السبب في زوال حكم بني أمية.

وما لنا نتحدث عن الزوال ببساطة ونحاول تقنين خلطته، ومعادلاته، وكأن هناك نظاما سيزول، وسواء زال او بقي في صيغة أخرى معدلة فإن درس زوال الانظمة يفهم من خلال بني أمية اكثر مما يمكن فهمه من خلال بني العباس الذين كان احتضار دولتهم اطول واعقد من مرحلة الاحتضار التي عاشتها الدولة العثمانية.

المسعودي في «مروج الذهب» يحكي لنا قصة الزوال الأموي على لسان بعضهم، ولا نعرف كيف وجدهم، فقد أفنى العباسيون البنات والولدان، باستثناء صقر قريش الذي فر ليؤسس دولة اموية أخرى في الاندلس على ضفاف اوروبا.

يقول المسعودي: سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم الى بني العباس: ما كان سبب زوال ملككم..؟ فقال الشيخ الأموي المجهول: «انا شغلنا بلذاتنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا، فظلمنا رعيتنا فيئسوا من انصافنا، وتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فتخلوا عنا، وضربت ضياعنا فخلت بيوت أمولانا، ووثقنا بوزرائنا، فآثروا مرافقهم على منافعنا، وامضوا أمورا دوننا اخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا، فزالت طاعتهم لنا، وكان استتار الاخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا».

وعند «استتار الاخبار» يتفتح اللغز، ويُحل الى اصوله الواضحة الرمز، فكل الانظمة الاستبدادية على مدار التاريخ تصل الى تلك اللحظة التي لا يعود الحاكم فيها يهتم بما يجري حوله، ولا يكون حوله اصلا من يجرؤ على اطلاعه على الحقيقة المرة لأن كل الذين يجرؤون طارت أعناقهم أو قطعت ارزاقهم في مرحلة سابقة للحظة السقوط المريع حين لا يجد المستبد الى جانبه وهو يودع الملجأ أو القصر غير المنافقين والمنتفعين وجماعة «يس سير» وأمرك سيدي و«كل شيء آخر ألسطة».

ان الحاشية الذليلة المنافقة اخطر على الحاكم من اعدائه، فهي التي تزين له كل قبيح، وتضع كل طاقاتها لخدمة نزواته ولا يعنيها استمر أو زال، لأنها بصفاتها تلك ليس لها ولاء وستخدم كل من يجيء بعده بذات الاسلوب والمثابرة والحماسة ـ وعذرا لتشويه هذا المعنى.

ولفهم آليات لحظة الزوال لا بد ان نخلط التراث العربي بالفرنسي، ونستعين بمونتسكيو مؤسس علم السياسة الحديث الذي كان يطلق منذ قرنين على انظمة الاستبداد اسم «نظام اللحظة»، لانه دون ماض يستمد منه شرعيته ودون أفق مستقبلي مضمون يقنع من حوله بالدفاع عنه.

زمن الاستبداد نقيض للامتداد الزمني الطبيعي، فلا وجود للغد، وليس بيد المستبد غير اللحظة الآنية التي يمارس خلالها بطشه واستبداده، ويحاول تمديدها ومطها بكل الاساليب الممكنة، لكن للزمن قوانينه، وللسياسة ايضا، فحين ينتهي العمر الافتراضي لأي نظام يصبح زواله مسألة وقت ولعباً في الوقت الضائع، فالأسس تنهار لمجرد ان يزول الخوف من نفوس الناس، وبعدها يصبح كل شيء مسألة وقت وصدف، فالانظمة الآيلة للزوال كالبيوت الآيلة للسقوط تنهيها احيانا هبة ريح، واحيانا تتهاوى لأن حصاة صغيرة تزحزحت قليلا عن مكانها، فتبعها متحمسا ودون تردد، المبنى كله.