العراق: ويلي منه وويلي عليه .. من يحمل المسدس يصنع القانون

TT

بعد خطاب كولن باول في مجلس الأمن، أصبح من المؤكد أن الحرب قادمة لا ريب فيها. بل وقبل ذلك كانت كل المؤشرات تؤدي إلى القول بحتمية الحرب. فكما قيل سابقاً، فإن المسألة أبعد من مجرد أسلحة دمار شامل أو نفط، بقدر ما هي مخطط أميركي استراتيجي شامل، بالنسبة للمنطقة خاصة، وللعالم أجمع بصفة عامة. المعجزة وحدها، أو حدوث ما لا يخطر على عقل أو قلب، هو ما يمكن أن يمنع وقوع الحرب، وإلا فإن منطق الأحداث ومجرياتها يقرع طبول الحرب. وسواء وافق مجلس الأمن أو لم يوافق على إعطاء تلك الحرب صفة الشرعية الدولية، فإن الولايات المتحدة عازمة على خوض غمارها وحدها لو استلزم الأمر، وهي خائضة اياها وحدها في كل الأحوال، وما الدعم من هنا أو هناك إلا لإضفاء صفة الدولية وشرعيتها على مجابهة صدام حسين، وإلا فإن الولايات المتحدة هي الأساس. فعلى رأي مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، مؤلفي «الإمبراطورية»، فإن هنالك شرعية دولية جديدة في طريقها إلى الهيمنة، هي شرعية السلوك الأميركي بصفته سلوكاً أميركياً، أي صادراً عن القوة الأعظم التي تحدد معاني الأشياء وفقاً لسلة قيمها، دون أن يكون لقوى العالم القديم، أو قوى ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، دور في إضفاء الشرعية على مثل هذا السلوك. بمعنى آخر، فإن السلوك الأميركي في هذه الحالة هو سلوك يستمد شرعيته من ذاته وقيمه الخاصة، وليس من أي كيانات أو سلال قيم أخرى.

وفي الحقيقة فإن ما يجري في عالم اليوم، وخاصة في أعقاب أحداث سبتمبر، ينطبق عليه تماماً فحوى مقولة أميركية في أن «من يحمل المسدس يصنع القانون»، أي شرعية القوة، بكل بساطة، والتي لا تلبث أن تتحول إلى شرعية متفق عليها، أي حق مكتسب، إذا استطاع «حامل المسدس» أن يصنع سلاماً ينضوي في ظله الجميع، أو «باكس أميركانا» في حالتنا الراهنة. كل الشرعيات السياسية، الداخلي منها والخارجي، تبدأ بشرعية القوة وتنتهي بشرعية الحق والاتفاق. أن يكون ذلك مخالفاً لقواعد الحق والعدل كما يراها هذا أو ذاك، وكل تلك القيم المطلقة التي تجعل من الإنسان إنساناً، مسألة واردة على مستوى المُثُل، ولكن ليس بالمثل وحدها يعيش الإنسان. وفي النهاية، فإن القوة هي التي تدعم المثال، وبدون قوة داعمة، يبقى المثال مثالاً: يداعب النفوس، وتشرئب إليه أعناق الملهوفين، ولكنه يبقى مجرد حلم جميل، وأمنية مبتغاة.

وبعيداً عن مثل هذا الحديث، وإن كان محبباً إلى النفس، نعود إلى حديث الحرب. لم يعد وارداً الآن الحديث عن موقف قيمي من الحرب، أي معها أو ضدها، إلا إن كان ترف الفكر ورفاه الثقافة هو الهدف. فالحرب قادمة، وبالتالي لا يمكن منعها، كما تقول كل المؤشرات، والكيّس هو من عرف موقع قدميه في كل ذلك. الموقف الأحكم، أو كما يبدو أنه الأحكم في هذه الحالة، هو البحث عن أقل الضررين، طالما أصبح الضرر الأكبر غير ممكن الاجتناب. وأقل الضررين في هذه الحالة هو البحث عما ما يمكن فعله في اليوم التالي للحرب، لتجنب تلك الآثار غير المرغوب فيها الناتجة عنها. أمنية أن لا تقع الحرب، وأمنية أن يعم السلام، وحلم الأحلام أن يصبح الإنسان إنساناً دون أعراض مضافة، ولكن ماذا لو وقعت الحرب وانفرط عقد السلام؟ هذا هو السؤال. الولايات المتحدة تسعى من وراء الحرب إلى تغيير معادلات بدت وكأنها ثابتة في المنطقة، بدءاً من الحقائق الجغرافية والسياسية، وانتهاء بالقضية الفلسطينية، مروراً بالنفط ومسائل التوطين والتقسيم وإعادة التكوين. وعلى الطرف الآخر، دول المنطقة ومجتمعاتها، سواء كان العراق أو غيره، تنظر بعين الخشية إلى «اليوم التالي»: كل شيء ممكن في ذلك اليوم وما بعده. قد لا يحدث شيء البتة من طرف، فتبقى المنطقة مثلاً على حالها. وقد يحدث كل ما هو مخشي منه على الطرف الآخر، كأن تتبعثر المنطقة أشلاء متناثرة متخاصمة، أو تنفجر المجتمعات كثورة بركان ظل خامداً طوال قرون مثلاً، وبين الطرفين تكمن كافة الاحتمالات، وكل احتمال من هذه الاحتمالات يعتمد على ما يسبقه من حركة، ومن قبل ذلك كله، الوعي بما يجري وكيف يجري، حكاماً ومحكومين على السواء. هنالك اليوم جهود مكثفة لمنع الحرب، وخاصة من قبل دول تجد أنها قد تكون أكثر المتضررين من الكارثة، وهي جهود يجب أن تكون محمودة مهما كانت غايتها، فكل ما يؤدي إلى منع الكارثة فهو محمود بذاته. ولكن من الواجب عدم وضع كل البيض في سلة واحدة، بحيث أن كل الجهود تصبح منصبة على منع حرب تبدو حتمية الوقوع. جزء من الجهد، بل والجزء الأكبر منه اليوم، يجب أن يكون منصباً على المشاركة الفعالة في صياغة معادلات ما بعد الحرب، وإلا فإن الكارثة قد تتحول إلى كارثتين، فنكون بذلك لا حرباً منعنا، ولا على سلام حصلنا.

المتضرر والمستفيد المُحتمل الأكبر من نتائج الحرب المقبلة هو دول الجوار العراقي بصفة خاصة، ومن المفروض على المتضرر المحتمل أن لا يجعل مكاسب غيره على حساب مصالحه، في لعبة سياسة لا ترأف ولا ترحم. السعودية مثلاً، ووفقاً لسيناريوهات متعددة طُرحت، أو لنقل سُربت من خلال وسائل الإعلام الأميركية والعالمية، تُشكل هدفاً محتملاً من الأهداف الاستراتيجية لليمين الأميركي القابض على مفاتيح القرار السياسي في واشنطن اليوم، من حيث إعادة صياغتها مثلاً، أو في تحجيم دورها الإقليمي في أحسن الأحوال. السعودية اليوم، ومن خلال جهودها الدبلوماسية، تحاول منع الحرب، وما جولة الأمير سعود الفيصل الأخيرة في أوروبا وأميركا، إلا محاولة النفس الأخير في هذا المجال، إن صح التعبير. هل تستطيع السعودية فعل ذلك؟ أتمنى ذلك، ولكن يبدو أن القضية قد تجاوزت حدود الأخذ والرد، وبات الأمر محسوماً. وللسعودية الحق في أن تحاول منع الحرب، فهي المتضرر المحتمل الأكبر من نتائجها، وكما يمكن قراءة ذلك في مسار الأحداث، والطبيعة المتغيرة للعلاقات السعودية الأميركية في أعقاب سبتمبر. ولكن على السعودية، وفي مثل هذه الحالة، أن لا تضع كل بيضها في سلة واحدة، وبذلك قد تخسر السلة وما حوت. وبذلك نعني أنه وقبل الحرب، يجب التعامل مع «اليوم التالي» من الآن، كي لا تفاجئنا أمور ما كان يجب أن تكون من المفاجآت. فمهما قيل عن العلاقة التاريخية بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية، فإن ذلك لن يمنع الولايات المتحدة من السير في تحقيق استراتيجيتها الجديدة احتراماً لعلاقة تاريخية «كانت» مفيدة. فالمُلك عقيم، كما قال عبدالملك بن مروان، والسياسة لا تعرف صديقاً دائماً ولا عدواً دائماً، فهي مكيافيلية الطبع والطابع مهما شتمنا «لا أخلاقية» نيقولاي مكيافيلي.

فالولايات المتحدة هي من طرد الشاه من أراضيها، عندما قلبت له الأيام ظهر المجن، وهو الذي كان الشرطي الأميركي في المنطقة، فهل نتوقع غير ذلك في العلاقة مع دول أخرى، ربما كانت أقل شأناً من ايران الشاه في العين الأميركية؟ ليس هذا نقداً لسياسة أميركا، فكل السياسة اليوم هكذا، والعتب على من لا يفهمها وليس على ذات السياسة. «في اليوم التالي»، ستواجه السعودية ضغوطاً أميركية عديدة غالباً، معظمها متعلق بالوضع الداخلي السعودي، ومن هذه النقطة يكون الانطلاق للتخطيط لمرحلة ما بعد الحرب. الجهود الدبلوماسية الفوقية لا شك في فائدتها وأثرها، ولكن دون سحب الأوراق التي من الممكن أن تُلعب أميركياً بالنسبة للداخل السعودي نفسه، فإن تلك الجهود قد تتحول إلى نوع من النفخ في قربة مقطوعة، كما يقول المصريون في أمثالهم. فالسياسة في البداية والنهاية، هي لعبة تقوم على حقائق أرضية، وبدون تلك الحقائق لن تكون إلا لعبة عبثية، أو مجرد أحاديث مجردة في مجلس عام.

والفلسطينيون بدورهم يشكلون أحد المتضررين الكبار المحتملين في اليوم التالي للحرب. فجزء من الاستراتيجية الأميركية في هذا المجال كما يبدو، ومن خلال حرب العراق، هو فرض حل نهائي وكلي للقضية الفلسطينية، وذاك لن يكون بالضرورة وفق الرؤية الفلسطينية للمصلحة الفلسطينية. كلمات كثيرة نسمعها تتسرب من هنا وهناك حول التوطين والتهجير وإعادة التوزيع ونحو ذلك، قد تجد لها مجالاً في التطبيق في اليوم التالي. لقد أضاع الفلسطينيون الكثير من الفرص التي لو اسُتغلت في حينها، لكان الوضع اليوم غير الوضع، ولكن «كان» فعل ماض لم يعد لنا علاقة به، والمشكلة هي في «الآن». فما زال الفلسطينيون، ورغم كل الفرص الضائعة، غير مدركين لخطورة المرحلة المقبلة، وربما كانوا من المدركين، ولكن أوضاعهم وتصرفاتهم تشي بغير ذلك: فإن كانوا من غير المدركين، فتلك مصيبة، وإن كانوا من المدركين وهذه هي أوضاعهم، فالمصيبة أعظم.

حقيقة ليست المراد هنا إعطاء وصفات لسلوك الدول هنا أو هناك حول ما يجب فعله، فأهل مكة أدرى بشعابها، والكاتب أقل من أن يعطي جزءاً من وصفة، فما بالك بوصفات. كل المراد قوله هو أن الوعي السليم، والسلوك المناسب في الوقت المناسب هو وصفة الوصفات لديمومة الفاعلية واستمرار الوجود. والتخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، انطلاقاً من هذه المرحلة، وفي تصور الكاتب على الأقل، هو السلوك الأنسب في مثل هذه الظروف، بعيداً عن مقولات الشجب والرفض والمكابرة، وبعيداً عن محاولات تحقيق ما لا يمكن أن يتحقق، والعاقل في النهاية خصيم نفسه.