مصداقية القوة الأميركية.. ومستقبل «الناتو» على كف الأزمة العراقية

TT

الطريق الى نزع الاسلحة العراقية افرز اسوأ ازمات حلف شمال الاطلسي (ناتو) منذ خمسة عقود. المدهش في هذا التوتر هو ضآلة اهمية الاسباب المطروحة كخلاف بين دول الحلف، وهي من طراز اذا كان العمل العسكري ضد العراق يجب ان يتبع عدة شهور من التفتيش، او اذا كان احتواء نظام صدام حسين هو احد الخيارات العملية. هذه التساؤلات تهدر القضية المركزية التي هي كالتالي: اذا ترددت الولايات المتحدة بسبب «الفيتو» الفرنسي، او اذا تشجع العراق معتقدا ان بامكانه المراوغة بفضل سياسات حلفائنا في التملص من خيار الحرب، فإن النتيجة ستكون في هذه الحالة كارثية على «الناتو» وعلى النظام العالمي عموماً. اذا انتهت الازمة من دون تغيير النظام في بغداد، واذا ارسلت الولايات المتحدة مائتي الف من قواتها في المنطقة لتعيدهم من دون تحقيق اكثر من احتواء ضبابي لنظام اخل بقرارات الامم المتحدة لأكثر من عشر سنوات، فإن مصداقية القوة الاميركية في الحرب ضد الارهاب، وفي الشؤون الدولية عموما، سوف تتضرر بشدة، وربما بلا امكانية لاصلاح الضرر.

وفي حالة كهذه فإن الدول التي دعمت، او سكتت عن التوافد العسكري الاميركي، ستكون في ازمة، او سيتحتم عليها العثور على تخريجات. وفي حال بقي نظام صدام حسين في موقعه بحجة انه التزم وانصاع للقرار 1441، او بتبرير عدم العثور على خروقات، فإن طريق الامم المتحدة سيكون قد ادى للعدمية. في هذه الحالة سيرفع الحصار عن العراق، او سيخفف كما كاد يحصل قبل سنتين، وسيخرج العراق كأغنى دولة في المنطقة سواء بكميات الاسلحة ذات التدمير الشامل القديمة او بتصنيع غيرها عبر المصادر المالية التي سيتم تحريرها مع نهاية الحصار.

اذا لم تكن فرنسا والمانيا تريدان هذه النتيجة، فما هي اهدافهما؟ أهي ارضاء القيادتين للرأي العام المتصلب في بلديهما بدل ان تؤثرا في خلق الرأي العام المناسب؟ أم انهما تريدان تحجيم حليف قوي؟ أم هو استرضاء فرنسي لالمانيا المنشغلة في شؤونها الداخلية منذ اعادة توحيد البلاد، وحتى تفوز فرنسا بالمقابل بتأثير اقوى في القرار الاوروبي الموحد؟ انفجار الازمة في هذا الوقت المتأخر يظهر مدى قلة التفهم الاوروبي للواقع الاميركي. كل الحكومات الملمة بأسلوب الرئيس بوش وتفكير مستشاريه عرفت بعد القرار 1441 في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002 ان الخطوة التالية بعد شهور ستكون اثبات مخالفة عراقية والتصدي لها. لماذا صوتوا اذاً مع القرار ثم التهديد باستعمال «الفيتو» عندما يحين وقت التنفيذ؟ في النهاية، الواقعية الفرنسية لن تسمح بالوقوف جانباً بينما اقرب الحلفاء، وهو الحليف الذي وقف معها في حربين عالميين وخلال الحرب الباردة، يقود تحالفاً تطوعياً. لا يعقل ان يكون في مصلحة فرنسا ازالة العوائق امام الارهابيين وتأكيد نظرة المتطرفين بأن الغرب قيد الانهيار. واكثر من ذلك، اذا ارادت المانيا وفرنسا عدم خسارة تطلعاتهما الاوروبية المستقبلية فإن عليهما التفكير في مواقف الدول الاوروبية ذات الموقف المخالف تجاه العراق. إن فكرة بناء هوية اوروبية موحدة عبر اقامة توازن اوروبي يقابل الولايات المتحدة، قد تكون احدى ضحايا التصعيد الحالي. وحتى لو رضخت فرنسا في النهاية، كما هو متوقع، فإن تركة من الشكوك ستظل تثقل العلاقات الاطلسية.

ولاستخلاص العبر من الاجواء المسممة الان، علينا استرجاع التاريخ. ان الخلاف الحالي ليس فريداً بين ضفتي الاطلسي. فقبل جيل مضى نشبت ازمة مشابهة رغم ان وجود التهديد السوفياتي آنذاك قد حد من تفاعلاتها. المسرحية ذاتها تتكرر الان وفي المنطقة ذاتها: الشرق الاوسط. لكن القواعد تطبق بشكل معاكس الان. في اواسط الخمسينات كانت بريطانيا وفرنسا تعتقدان انهما لا تزالان قوتين عالميتين عظميين. كانت لبريطانيا مصالح في مصر والخليج، ولفرنسا مصالح في سورية ولبنان. كان حلفاؤنا الاوروبيون يتعاملون مع مصالحهما ضمن قواعد الحرب الباردة، وعندما شعرت بريطانيا وفرنسا بعدم القدرة على الحفاظ على دورهما عرضتا على واشنطن عملية مشتركة في الشرق الاوسط تشبه الاشتراك الاميركي في تركيا واليونان عندما عجزت بريطانيا عن الاحتفاظ بالمواقع هناك. لكن الولايات المتحدة رفضت الانخراط في العملية، لانها لم ترغب في الاشتراك مع القوى «الكولونيالية».. تماماً كما يريد حلفاؤنا الان التنصل من تعريف واشنطن لمصالحها في الشرق الاوسط. وكما هو الحال اليوم، إذ يريد منتقدونا الاوروبيون دعم الحرب ضد الارهاب ويصرون على قتاله باساليب التفاهم، كأن الوضع في الخمسينات، عندما ارادت الولايات المتحدة خدمة استراتيجيتها في الحرب الباردة بالتخلي عن حلفائها الاوروبيين في القضايا الاقليمية. آنذاك كانت واشنطن تتوقع عبر دعمها للحرب ضد «الكولونيالية» ان ينضم اليها الانصار الجدد في حربها ضد الامبريالية السوفياتية. ولكن ذلك لم يكتب له ان يتحقق. فالقيادات الراديكالية المنتمية لمرحلة التحرر عاملت الولايات المتحدة كدولة مساعدة، ولكنها قوة امبريالية وهي فقط على خلاف مع الدول الامبريالية الاخرى. وعندما تراجع دور بريطانيا وفرنسا تحولت اميركا الى هدف للراديكاليين في الشرق الاوسط، وهؤلاء لم ينظروا الى موسكو كتهديد استراتيجي وانما كأداة مساعدة. هذا التحول تعمق بعد تمرد الاتحاد السوفياتي على حزام الاحتواء وبيع الاسلحة لمصر ثم لبقية العالم الثالث.

تصاعد الخلاف الاميركي ـ الاوروبي بعد تأميم الرئيس المصري (الراحل) جمال عبد الناصر قناة السويس يوم 26 يوليو (تموز) .1956 واعتبرت فرنسا وبريطانيا الامر بمثابة ضربة مميتة لمصالحهما في الشرق الاوسط ولهيبة كل منهما كقوة عالمية، وقارنتا عمل عبد الناصر بعمل هتلر واعلنتا انهما لن تقبلا أي حل يؤدي الى تفرد قوة اقليمية واحدة في السيطرة على قناة السويس. وكان من شأن هذا الموقف ان يوضح ان بريطانيا وفرنسا ستخوضان الحرب لان قيادتي البلدين كانتا، بتأثير مفاهيم الحرب العالمية الثانية، تعتبران التصالح مع الخصم خطيئة كبرى. لكن الولايات المتحدة لم تستوعب الموقف، واعتبرت ان لندن وباريس تناوران. لقد تقبّلت ادارة ايزنهاور الاصرار الاوروبي على تدويل قناة السويس، ولكنها رفضت مبدأ استعمال القوة. في ظروف كهذه يلجأ الدبلوماسيون الى اجراءات التأخير وتحويل الواقع الى اجراء عملياتي، تماما كما يحاول منتقدونا الاوروبيون الان عمله في مجلس الامن. وكان وزير الخارجية الاميركي آنذاك، جون فوستر دالاس، دبلوماسياً بارعاً.

في مطلع اغسطس (آب) 1956 اقترح دالاس مؤتمراً يحضره 24 من الدول البحرية ليضعوا خطة تفرض حرية المرور في قناة السويس، ولكنه اضرّ بمقترحه في الثالث من اغسطس حين قال «لا نريد مواجهة العنف بالعنف». في العاشر من اغسطس رفض الرئيس عبد الناصر المقترح، وبعد ثلاثة ايام عاد دالاس باقتراح جديد كان عبارة عن اقامة هيئة ادارة دولية للقناة تضع سفناً خارج المياه المصرية تقوم بتأمين وتنظيم المرور وجمع الرسوم. لكن دالاس قلل من تأثير اقتراحه هذا باعادة رفضه لمبدأ استعمال القوة. في 12 اغسطس تبنت الامم المتحدة قراراً مكوناً من المقترحين الاميركيين، ولكن السوفيات عارضوه واستخدموا «الفيتو».

دفع الاحباط بريطانيا وفرنسا لحرب خطط لها بتعاسة، إذ توافقت مع قمع السوفيات لثورة في المجر، وأُثقلت (الخطط) بجر اسرائيل في الحرب، الامر الذي وضع فرنسا وبريطانيا في مواجهة شاملة مع الامم المتحدة، وادى الى اصدار قرارات الشجب بقيادة الولايات المتحدة التي صوتت الى جانب الاتحاد السوفياتي ضد حلفائها الاوروبيين، وذلك للمرة الوحيدة في فترة الحرب الباردة، كما امتنعت الولايات المتحدة عن دعم العملة الاوروبية في السوق المالي.

هذه المقارنة بين الماضي والحاضر تنتهي الان، قبل تنصل الحلفاء من السياسة الاميركية. ان الخيار لا يزال متوفراً لفرنسا والمانيا لكي تقتنعا من خلال اقوال كولن باول وما عرضه في مجلس الامن، او من خلال تقرير هانس بليكس المنتظر يوم الجمعة المقبل (14 فبراير ـ شباط الجاري). باختيار هذا الطريق، يمكن لمنتقدي واشنطن الاوروبيين ان يتذكروا نتائج الموقف الاميركي حين تنصل من فرنسا وبريطانيا سنة .1956 حينذاك، لم يظهر جمال عبد الناصر أي امتنان للولايات المتحدة التي انقذته حرصاً على الدول غير المنحازة. بدل ذلك استعرض عبد الناصر النتيجة كنصر شخصي له انتزع من الاميركيين. ثم بدأ مسلسل انهيار انظمة مؤيدة للغرب في المنطقة، مثل ما حدث للعراق الذي بدأ الانغماس في طريق الراديكالية.

وخلال خمس سنوات كانت القوات المصرية تدخل اليمن. وفي عام 1967 تخلى عبد الناصر عن الضوابط التي وضعت بعد عام 1956 على الحدود مع اسرائيل وفي مضائق تيران، واندلعت حرب الايام الستة التي ادت لقطع مصر علاقاتها مع الولايات المتحدة. لم تعد العلاقات الى طبيعتها إلا بعدما توصل الرئيس (الراحل) انور السادات عام 1973 الى حقيقة ان اسلوب ابتزاز الولايات المتحدة عبر التسلح السوفياتي يؤدي الى طريق مسدود. هذا الدرس كان يجب ان يتعلموه قبل عقدين.

اما بالنسبة للاتحاد السوفياتي، فقد فسر الخلاف الاميركي ـ الاوروبي في ازمة السويس باعتباره فرصة يمكن انتهازها لجلب الخلافات الى اوروبا. وفي 1958 بدأ نيكيتا خروتشوف اطلاق التهديدات التي ادت الى ازمة برلين بعد اربع سنوات. ان التأثير الأشد لتلك الازمة اصاب التحالف الغربي، وظهرت نتائجه بعد سنوات حين قررت فرنسا بناء سلاحها النووي بتأثير «الفيتو» الاميركي ـ السوفياتي المشترك في مجلس الامن ضد حملة السويس، ونتيجة لشعور خروتشوف بالحرية في اطلاق تهديده النووي ضد بريطانيا وفرنسا. وحتى مستشار المانيا الغربية آنذاك، كونراد اديناور، الصديق الاقرب للولايات المتحدة في اوروبا، شعر اثناء ازمة السويس ان اوروبا ستتحول الى الهامشية اذا لم تتوحد وتنظم ذاتها كقوة مستقلة. ووفقا لوزير الخارجية الفرنسي كريستيان بينو، قال اديناور يوم قبول بريطانيا وفرنسا للانذار الاميركي: «لم يبق (لفرنسا وبريطانيا) سوى طريق واحد للعب دور حاسم في العالم... لا وقت لدينا لاضاعته. اوروبا ستكون انتقامكم».

ان التاريخ ـ بالطبع ـ لا يكرر ذاته بدقة. جمال عبد الناصر ليس صدام حسين، والتهديد من العالم الثالث الراديكالي المدعم بالسلاح السوفياتي اقل خطراً من الارهاب المطعم بأسلحة الدمار الشامل. آنذاك، وكما الان، مهمة اميركا هي تجاوز الخطر الاستراتيجي مع الأخذ في الاعتبار تطلعات شعوب المنطقة وكرامتها وتقدمها. ان بلوغ هذا الهدف لا يتطلب اهانة الحلفاء. وقد يقال ان ازمة السويس اظهرت انه مع الوقت يمكن لسياسة الاحتواء ان تكون افعل من المواجهة، لكن هذا يمكن نفيه مما قيل اعلاه، اذ هناك اختلاف اساسي: في عام 1956 كان امام الولايات المتحدة خيار استبدال فرنسا وبريطانيا بغيرهما بحثاً عن الاستقرار والتقدم في المنطقة، ولكن لا يوجد خيار مشابه الآن امام فرنسا والمانيا اذا انتهى الوضع الحالي الى الأسوأ، لان الراديكالية ستحكم المنطقة من دون أية رقابة.

يبقى ان القضية الاساسية لا تزال كما كانت في السابق في ما يخص طبيعة التحالف، خصوصاً في ظل غياب تهديد سوفياتي يحد من سعة الخلاف بين الحلفاء. اثناء ازمة السويس وضع الاميركيون ثلاثة مبادئ:

1) واجبات الحلفاء تحددها بنود قانونية.

2) استعمال القوة غير مسموح به إلا في حالة الدفاع عن النفس.

3) من حق الولايات المتحدة اقامة علاقات في العالم النامي حتى وان كانت على حساب حلفائها.

هذه المبادئ الثلاثة تستخدم الان بانتقامية ضد الولايات المتحدة من قبل الحلفاء في اوروبا. ومثلما ان تلك المبادئ لم تكن ناجحة اثناء الحرب الباردة، فانها خطرة الان بينما النظام الدولي في ثورة فوضوية. ان التشفي ليس سياسة. الواقع ان الحلفاء غير فاعلين لان زعماء دول الحلف يستشيرون المحامين، ولن ينتعش هذا التحالف الا عبر تفعيل المشاعر والروح المعنوية بعيداً عن قيود القانون والمواثيق. ان الحلفاء الذين يشعر شركاؤهم ان بوسعهم الاستفادة من فشلهم في المدى الطويل ليسوا حلفاء. واذا اريد لحلف «الناتو» ان يبقى مؤثراً في مواجهة تحديات المرحلة الجديدة، فإن على قادته ان يعثروا على تعريف جديد لتطلعاتهم.

* وزير خارجية أميركا الأسبق

خدمة «ميديا تريبيون إنترناشيونال» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»