شهادات في محمود كحيل

TT

* كلمات وهدايا عاطرة إلى ذكرى محمود كحيل

* إياد أبو شقرا

أمثال محمود كحيل يفتقدون.

فهل ألطف من النسمة الرقيقة في يوم قيظ، وهل أجمل من ضوء القمر يزين ظلام الليل؟

عبر مشوار مع أسرة «الشرق الأوسط» والشقيقة «المجلة» منذ 1979، ومشوار أطول في محراب فني الكاريكاتور السياسي والاخراج الصحافي، عرف محمود كثيرين وعرفه كثيرون.

ومن بيروت حيث كانت البداية، الى مربط الفرس ومحط الرحال تحت سماء شتاء لندن الداكنة، يطل من هذه الصفحة اليوم عدد من اصدقاء محمود ومقدريه، بأقلامهم وريشاتهم، يذكرون ولا يرثون... يحتفون ولا يبكون... يعيشون كل لحظة معطاء امضوها معه، مع لطفه وذوقه ومناقبيته، رافضين ان تذهب عنهم بعيدا.

من اصدقاء محمود كحيل، وأحبائه ورفاق دربه، هذه الأضمومة من المقالات والرسوم.

* عندما قال كلينتون: إنه عبقري

* أمير طاهري

وسط احتفالنا بأجواء عيد الأضحي المبارك دهمتنا أنباء قاتمة أمس. فقد توفي محمود كحيل، ومعه خسرنا الابتسامة الحلوة المرة التي كانت رسومه تنقلها عبر العالم صباح كل يوم.

لما يزيد عن عقد من الزمن كنت وكحيل متجاورين في المكتب، وحرص كلانا على أن يقتحم خلوة الآخر إذا ومتى ما تطلب الأمر، من أجل تبادل الحديث أو الأفكار.

كان كحيل واحدا من رجال عصره النوادر. ويمكن لكل من تتبع رسوماته بشكل يومي أن يتعرف بعمق على ما يدور في عمق المثقفين العرب، أفضل من مجرد تصفحه تقريرا ديبلوماسيا أو تحليلا سياسيا. فهو إلى حد ما لم ينقل للعرب مشاعرهم بل انه أيضا أوحى لهم بكيفية التعبير عن مشاعرهم لكي يحافظوا على مكانتهم في عالم اليوم المتنافر.

ويمكن لكل من يتابع أوضاع العالم العربي أن يدرك حجم الصعوبات التي تعاني منها الصحافة هناك. بل إن وضع الرسوم السياسية يكاد يكون أصعب. فرسام الكاريكاتير لا يستطيع الاختباء خلف الكلمات. كما إنه لا يستطيع اللجوء إلى صيغ كلامية للتورية عن أفكار محظورة. وهو أيضا لا يستطيع إخفاء أفكاره بين السطور، مستخدما أسلوب «أجل ولكن»، بحيث يلاطف خصما عنيدا أو يخفي الغبار رغم انتشاره.

ففي عالم رسامي الكاريكاتير لا مجال للمراوغة. ولا بد لما يرسمونه أن يحدد موقفا قد يتسنى تجنبه بالكلمات.

وإذا ما كانت قواعد الأخلاق تقتضي الاختيار بين الخير والشر، فهي في علم الجمال تعني الاختيار بين الجمال والقبح. أما في السياسة فالخيار هو بين الصديق والعدو. ولا يمكن اتخاذ ذلك القرار بنفس وضوح ما يمكن أن يلحظه المرء في رسوم الكاريكاتير. وهذا هو ما يجعلها تعبر عن أفضل أشكال التعبير السياسي التي يوفرها عالم الصحافة.

وبطبيعة الحال، يواجه رسام الكاريكاتير العربي تحديات كبرى عديدة قد لا يواجهها نظيره في الغرب. وعلى سبيل المثال لا يستطيع الرسام العربي استخدام العديد من الزعماء السياسيين في رسوماته. وما يزال بعض زعماء العرب التقليديين يشعرون بالغضب، بدلا من الإطراء، عندما يستعين رسامو الكاريكاتير بملامحهم بشكل دوري.

مشكلة أخرى يواجهها الرسامون العرب وهي انه بينما يعشق معظم العرب الفكاهة، كما هو حال الجميع، ما يزال معظمهم يشعرون بالخجل من الضحك علنا. وهذا قد يتجلى بوضوح عندما يلمس القدح الهوامش التقليدية المتعارف عليها والاختلافات التي تحددها عناصر لها علاقة بالعمر أو بالمكانة الاجتماعية.

وهكذا يجد الرسام الذي يريد تجنب العواصف نفسه بطبيعة الحال مضطرا للسعي لتجنب تبني موقف ما، ويتحاشى الخيارات الشاقة، رغم انه يسعى للتعبير عن الكثير مما يحدث في حياتنا. كما ان تبني المواقف واتخاذ القرار يعد أكثر صعوبة متى كان ذلك يعني السباحة ضد التيار. وعلى أية حال فمن طبيعة البشر السعي لراحة عذاب التورية بدلا من المخاطرة بالتعرض لمحنة قصوى.

لم يكن كحيل مع ذلك من ذلك النوع من الرسامين الذين يسعون لتجنب العواصف. فلأكثر من ثلاثة عقود تمكن من تبني نهج خاص به، مكنه من المحافظة على رسالته وعلى حاجته لنقلها للجمهور، بدون اختراق مبادئ العمل المتعارف عليها.

لكن تقديم كحيل كرسام كاريكاتير عربي قد لا يمنح الرجل مكانته التي يستحقها. فقد كان فنانا عالميا. كان عربيا كما كان دانتي إيطاليا وكما كان شكسبير انجليزيا. وبعبارات أخرى، كان كحيل ينتمي لكل البشرية. ولتميزه بالخصوصية أصبح عالميا.

وبينما ظلت المحنة الفلسطينية واحدة من أهم قضايا كحيل المركزية، الا أنه بالتأكيد لم يكن من نوع الفنانين الذين يعتمدون على موضوع واحد. وبصعوبة يمكن للمرء أن يستنتج انه أغفل مسألة رئيسية ذات شأن عالمي. فقد عكس بريشته كل القضايا الرئيسية المطروحة للنقاش في زمانه، بما فيها مناقب ومثاقب العولمة، والتهديد الذي تواجهه البيئة، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتداعيات مرض الإيدز، وتفكك الامبراطوريات التقليدية، وما أصاب بعض الأمم من تغيير في المصير.

كان كحيل الذي سيطرت عليه قناعاته الإنسانية العميقة، يقف دائما إلى جوار السلم والعدالة. لكنه أدرك في الوقت نفسه ان السلم والعدالة ابعد ما يكونان عن التحول إلى حقيقة.

لقد اعتاد ذلك النوع من الرسامين الذين أرادوا تجنب العواصف، على انتقاد نقاط الضعف والإشادة بمواقع القوة. واعتادوا السخرية من عدم ارتياح الضعفاء في الوقت الذي ظلوا يسعون للصفح عن طغيان الأقوياء. أما كحيل فلم يفعل ذلك. كان دائما مع الضعفاء ومن يشعرون بالخطر، شريطة أن يقاتلوا من أجل حقوقهم.

لم يكن معجبا أبدا بالقوي وذي البأس، وكان مدركا دائما لحقيقة ان عجلة الحظ دوارة، في عالم السياسة كما هي في مختلف مناحي الحياة.

كان أيضا صاحب رؤى مستقبلية. ففي عام 1991 انتقص من شأن وعود مدريد للسلام. وحينها قلت له إنه كان مخطئا في تشاؤمه. أما اليوم فقد أدركت انني أنا كنت مخطئا بتفاؤلي.

وفي عام 1992 قدمت واحدا من رسومات كحيل لبيل كلينتون، الذي كان حينها حاكما لولاية أركنساس وقد اقترب من ترشيح الحزب الديمقراطي له للانتخابات الرئاسية. في ذلك الرسم بدا كلينتون، كعفريت علاء الدين المنطلق من عنق الزجاجة في طريقه للهيمنة على الشؤون الأميركية. وقد علق كلينتون على الرسم بقوله: «إنه عبقري، لقد تنبأ بالمستقبل»، وأعرب عن أمله بأن تصبح نبوءة كحيل حقيقة، وهو ما حدث بالفعل.

وفي عام 1998 عرض علي كحيل رسما آخر من أعماله، وقد كان يضم بوب دول، مرشح الحزب الجمهوري. في ذلك الرسم يبدو عضو مجلس الشيوخ السابق كالطائرة التي لم تعد قادرة على التحليق. وقد أعجب دول بالرسم، وحسب معرفتي، فإنه احتفظ به في مكتبه لبضعة أعوام.

خلال سنواته الأخيرة اعتاد كحيل مشاهدة التلفزيون. وقد شكا من أن القراءة باتت تجهد عينيه، بينما بات «ما تعرضه الشاشة» يلطف أعصابه.

وكلما مررت عليه في مكتبه للتحية، كانت مشاهد التلفزيون والأصوات المنبعثة منه تذكرني إلى حد ما بكهف بلاتو. وقد أدركت ان خيال الفنان الذي عاش في ذلك الكهف كان كالطائر الطليق الذي يسبر أغوار المحيطات التي تتجاوز فهمنا البشري المحدود.

* إجماع على حبه

* عثمان ميرغني

قلّما تجد انسانا يجمع الناس على محبته واحترامه مثلما كان الحال مع محمود كحيل. لكن كحيل كان انسانا بمعنى الكلمة. وكان فنانا. وفي الحالتين كان شخصا استثنائيا.

رجل اتسع قلبه للكل، وأجمع الناس على حبه. وفنان ارتقى بفن الكاريكاتور السياسي العربي الى مصاف العالمية، وكانت رسومه كثيرا ما تشق طريقها الى كبريات الصحف العالمية بمختلف اللغات.

كان دائما يناديني بـ«مير»، وشرح لي ذات مرة هذا الاصرار قائلا: «مير عندنا (في لبنان) بتعني أمير». ثم ضحك وزاد: «انت أمير وغني كمان». قلت له ضاحكا: «انا لا امير ولا غني»، لكنه اصر ممازحا: «بلى.. انت امير بأخلاقك وغني بمهنتك». ولم اسمعه ابدا يناديني إلا بـ«مير».

هكذا كان محمود كحيل مع الجميع، لا تسمع منه الا اطيب الكلام وافضل السيّر عن الناس. كان ذا قلب واسع وحس مرهف، دمثا الى ابعد الحدود، ورقيقا خجولا. في المرات التي جلسنا فيها متجاورين في دعوات او اجتماعات، كان يهمس في اذني كلما كثر الاطراء عليه وعلى عمله: «خجلوني يا مير». لكن الناس اجمعوا على حبه وعلى حب فنه وعمله، ولم يحل في مجلس إلا وانبرى الناس للحديث عن عمله وابداء اعجابهم واستحسانهم.

كان قليل الكلام، ربما بسبب طبعه الخجول، وربما لان اسلوبه في العمل كان التعبير بالرسم لا بالكلام. وكانت معظم رسوماته بلا تعليق، لكنها كانت تقول وتحكي مجلدات من الكلام. بل كان رسمه ابلغ من اي مقال، ومن آلاف الكلمات. لذا كانت رسوماته تجد طريقها الى صفحات صحف كبرى بريطانية او اميركية او فرنسية او ايطالية، بل وبكثير من اللغات. كان لاذعا في رسوماته المعبرة، وكان دائما متفاعلا مع الحدث. تجده يضع ساقا على ساق، ولوحته على حجره، وهو يفكر ويتأمل ويرسم، والتلفزيون امامه على قناة اخبارية او اخرى. وكان لا يشكو من شيء إلا من الوضع العربي العام.

كان سريع البديهة، قوي الملاحظة، لا تستغرق معه الفكرة وقتا طويلا قبل ان تجد طريقها الى ريشته الناعمة. كنا عندما نحتاج رسما مع قصة ما في الصفحة الاولى لـ«الشرق الأوسط»، اذهب اليه في مكتبه واتحدث معه بايجاز عن فحوى الموضوع، فيستمع وهو يفكر، ثم يقول: «ما في مشكلة.. سأرسلها لك قبل الاجتماع» (يقصد اجتماع مناقشة مواد الصفحة الاولى مع رئيس التحرير).. وبالفعل، لا تمر ساعة إلا ويكون الرسم قد انتهى بفكرة معبرة، تزيّن وتغني اي موضوع يُنشر معها.

ستفتقد هذه المؤسسة محمود كحيل، فهو كان احد اركانها ومن اوائل العاملين فيها باخلاص لا يعرف الحدود، وبمهنية راقية، وريشة فنانة يصعب تعويضها. ستفتقده المؤسسة كما ستفتقده اسرته وزملاؤه ومحبوه والقراء. سيفتقده الجميع، فنانا وانسانا يستطيع المرء ان يقول عنه بلا تردد انه كان سامقا مثلما كان متواضعا، وكان قمة في كل شيء.

رحمك الله يا استاذ محمود، اوسع رحمة.

* محمود كحيل كما عرفته!

* نديم نحاس

في عام 1969 كنت اعمل في الطابق الرابع من بناية ستراند في شارع الحمراء الشهير، أفضل شوارع بيروت انذاك، ومقر معظم مكاتب الشركات الاجنبية العاملة في لبنان.

وبطبيعة الحال كانت العمارات التي تحف بجانبي الشارع تعج بالسكرتيرات والموظفين العاملين في هذه المؤسسات المتعددة الجنسيات، وما يتبع ذلك من نشاط يومي وازدحام وفورة حياة، خاصة في ساعات الصباح لدى فتح المكاتب، عندما كنت تشاهد الناس في مجموعات تحيي بعضها البعض، وتتبادل مع التحيات الاحاديث السريعة قبل ان تدخل في لجة العمل اليومي.

ولاحظت في ساعة معينة من كل صباح تقريباً ان بعض الموظفين، خاصة السيدات منهم، يهرعون الى نوافذ مكاتبهم يتطلعون الى الشارع ويتهامسون: محمود كحيل... محمود كحيل.

في البداية استغربت الامر، لكن حب الاستطلاع دفعني يوماً الى التوجه الى النافذة حيث اشار احدهم الى ذلك الشاب الوسيم الانيق الملبس المتوجه الى عمله في مجلة «الحسناء» بثقة واعتداد.

طبعاً عرفته فوراً، فقد كان من الفنانين المعروفين في لبنان والعالم العربي، خاصة ان رسوماته الكاريكاتيرية كانت حديث الجميع وبالتحديد تلك التي كانت توضع في الشرائط الاخبارية التي تسبق عروض الافلام السينمائية عادة، والتي تترك في اغلب الاحيان ضجة في الاوساط السياسية والاجتماعية.

وككل الفنانين المبدعين كان كحيل نجم السهرات والحلقات التي كانت تعقد مساء في مقاهي شارع الحمراء ومنطقة رأس بيروت، حيث كانت تتحلق حوله شلل الاصدقاء والفنانين من مبتدئين ومخضرمين الذين كانوا يهوون جلساته ويطربون لنكاته وقفشاته، وتعليقاته الساخرة ايضاً. وكان لا يبخل عليهم بالنصيحة والمشورة.

ولا يعلم سوى القليلين ان محمود كحيل، هذا الفنان المبدع الرهيف الحس، كان ايضاً في بداية حياته مدرباً رياضياً في عدد من المدارس والنوادي، لعل ابرزها الجامعة الاميركية في بيروت، قبل ان ينتقل الى تدريس فن الاخراج الصحافي والكاريكاتير، الذي لمع به باكراً وصقلته الخبرة والتجربة لاحقاً، في كلية الاعلام التابعة للجامعة اللبنانية.

من تلاميذه في ذلك الوقت كان عدد من الذين عملوا فيما بعد في صحيفة «الشرق الأوسط» والمجلات الزميلة لها التي تصدر عن الدار ذاتها. وكان هؤلاء اذا صادف ان التقوه في اروقتها يذكرونه بتلك الايام الجميلة يوم كان يوجههم بابتسامته التي لا تفارقه.

الطابع المميز الذي اتسم به محمود كحيل هو انه شخص لا اعداء له كما يجمع الجميع، سواء عندما كان في مقتبل العمر، او عندما تقدم به العمر نسبياً في غربته في لندن. كان محبوباً من الناس كلهم، يؤاخي الكبير والصغير، ويسأل عن كل فرد، خاصة اذا صادف وافتقده بعض الوقت.

وعزز ذلك خفة دمه وشخصيته الساحرة السريعة التفاعل والاستجابة.

اذكر مرة ان احد السياسيين في بيروت استاء من رسم له نشرته احدى المطبوعات، وتناقلته عنها صحف ومطبوعات اخرى. فقرر ان يعاتبه بقسوة اذا ما صادفه يوماً. وهذا ما حصل، ولكن بدلاً من العتاب والشكوى تحول اللقاء الى مصافحة وعناق وجلسة خفيفة الظل حول فنجان قهوة، وصداقة دامت مدى العمر.

من صفاته الاخرى المجهولة لدى معظم الناس انه كان يهاب السفر بالطائرات. وهذه الحالة حصلت معه بشكل مفاجئ قبل ان يدخل باب الطائرة المتوجهة الى بيروت. فتراجع بسرعة في اللحظة الاخيرة قبل اقفال الباب، وسط دهشة المسافرين الاخرين، ليقاطع السفر الجوي بعد ذلك طوال ما تبقى له من العمر.

محمود كحيل الفنان الانسان، والصديق الوفي، والشخصية الدافئة المفعمة بالاخلاق التي ستبخل الايام ببديل له، سيذكره الزملاء كلما مروا امام مكتبه الفوضوي الترتيب، المليء بكل انواع الرسومات والقصاصات وزجاجات الحبر على انواعها.. وريش الرسم التي كانت عشقه الاول والاخير.

رحمك الله يا محمود وتغمدك بواسع رحمته واسكنك فسيح جناته.

* العنوان الأخير

* عبد الله القبيع

عندما يموت لك انسان عزيز وتفتقد رحيله فجأة تكتشف في اليوم التالي ان مشاعر الحزن تنتاب الجميع سواء الذين يعرفونه او الذين لا يعرفونه ايضا.

شعرت بذلك الاحساس واكتشفت ان الحزن انتقلت عدواه الى وجوه الناس في الطريق المؤدي الى الصحيفة. وفي فضاء المدينة شعرت ان الناس الذين لاقيتهم وصل اليهم خبر رحيل الفنان الانسان محمود كحيل. احسست كأن الكل كان يعرف الخبر ويعزي في موت انسان كبير مثل محمود كحيل. شعرت ان الحزن لف المدينة وان شخصيات رسومه خرجت من مكتبه تستقبل المعزين.

الذين لا يعرفون هذا الرجل الصامت لم يتعاملوا مع قلبه الكبير المفعم بالحب والطمأنينة وانه ينبض بالصدق. نلتقي كل صباح، يختصر لك احداث العالم في صورة تبقى في الذاكرة اكثر مصداقية من عناوين الصحف ونشرات الاخبار.

قلبه الكبير مثل كل الطيبين الذين تعلمنا منهم الطيبة وصدق المشاعر لم يتحمل فانفجر مغادرا وترك خلفه العنوان الاخير لصحيفة تخجل ان تصدر بدون كحيل.

* كاره العنف والظلم

* أسعد المقدم*

الموت حق ولا مهرب منه كذلك يخطر على البال حين يغيب عن دنيانا محمود كحيل. فمع رفقة الايام الهاربة هناك وجوه يصعب عليك ان تصدق انها لن تكون معنا ولن نكون معها في يوم من الايام. كان محمود انسانا يكره العنف، يزعجه العدوان، ويبتعد الى دنيا هادئة خاصة به ينشد فيها الهدوء والسكون، وما كان ينتفض على السلم الذي يلجأ اليه الا في مواجهة الظلم وخاصة ظلم الانسان لأخيه الانسان. إذذاك، وفي لحظة صدق رهيب، يتحرك الفنان في اعماقه لتولد معه ثورة يواجه بها الظلم والظالمين بكلمة حق.

خطوطه كرسام واضحة جلية واكثر ما كان يحب لوحة الرسم حين تكتمل بالألوان. في مجلة «الاسبوع العربي» عرفته، وفي «الاسبوع العربي» كان من الرواد الاوائل حين ادخل اللون على رسومه. و=rel ما كان يحب اللون الاحمر بقدر ما كان يحاول الابتعاد عنه. فقد كانت للأحمر علاقة بالدم، وكانت دماء العصافير يخاف منها وعلى اصحابها. لذا كان ابتعاده عن لبنان الى لندن حين سالت دماء اللبنانيين خلال الحرب القذرة التي ولت الى غير رجعة.

اليوم.. اذ رحل بعيدا بعيدا فلعله رحل خوفا مما هو آت وما كان يسمع عن حديث الحرب القادمة وما تحمل معها من مجزرة لدماء الملايين.

ـ محمود كحيل؟!

ـ فنان كبير، وانسان نبيل مرهف الحس والايقاع خسرناه في غفلة منا. عرفناه بلا ضجة وذهب في لحظة سكون. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

* كاتب واعلامي لبناني ـ المدير السابق لمكتب جامعة الدول العربية في لندن

* ناثر الود

* إبراهيم عوض

... وفي يوم العيد رحل محمود كحيل.

لم يتمكن هذه المرة من اخفاء النبأ عنا كما كان يفعل حين يدخل المستشفى، او يصاب بوعكة تحول دون حضوره المنضبط الى مكتبه في دار الصحافة العربية بلندن.

«لا اريد ان ازعج احداً»، كان يقولها لكل من يعاتبه على فعلته. هذا هو محمود كحيل الحريص على الا يسمع الآخرون منه الا ما يسعد ويفرح.

وكما في رسومه كذلك في حياته ظل كحيل صادقاً مع نفسه اميناً لمهنته ووفياً لأصدقائه ومسامحاً لمن اساء اليه، هذا ان وجد فعلاً من بامكانه الاساءة الى صاحب القلب الكبير الطيب الذي ربما اعيته طيبته فتوقف عن الخفقان، لكثرة ما نثر من ود حوله.

حين جئت الى لندن في بداية الثمانينات اخذ بيدي لدى انضمامي الى أسرة الشركة السعودية للابحاث والنشر كما فعل في بيروت حين تعرفت اليه في نهاية الستينات وابلغته عزمي على دخول عالم الصحافة.

ظننت ان في الامر نزعة اقليمية باعتبار انني وإياه ابناء مدينة واحدة، طرابلس في شمال لبنان. وقد كان ظني في محله.

فمحمود، ورغم غربته القسرية عن وطنه ومدينته بفعل الحرب التي ضربت البشر والحجر في لبنان، كان دائم السؤال عن طرابلس وعن احوالها واحوال رفاقه الذين غادروها مثله ايام الشباب، قاصدين العاصمة بيروت حيث الافق الواسع.

لكن اطرف ما في محمود، لمن عرفه عن قرب، هو مناداته الاصدقاء باسماء «حركية» على طريقته الكاريكاتورية. فهذا اسمه «كوستى» وذاك «كستفليس» وذلك «بتاتي بتاتو» وآخر «كومبارسيتا». اما عند الحديث عن صديق «تحت الشبهات» فعندها يستحضر كلمة «الغضنفر».

وفي آخر اتصال اجريته معه من بيروت قبل اقل من شهر بادرني مرحباً وقال: «اهلاً ببرهومة» كما يحلو له ان يسميني. وسألني عن آخر اخبار ملف الهاتف الجوال وصولاً الى الحديث عن الغربة لاعناً ساعتها. ولدى استفساري منه عن احواله الصحية قال بشيء من الحسرة: «من يدخل في عمرنا «الكاراج» مرة لاصلاح اعطال في جسمه عليه ان يفعل ذلك بشكل دوري مثل السيارة تماماً».

هذه المرة دخل قلب محمود كحيل «الكاراج» لكنه توقف عن الدوران وتجمدت البسمة.

ويا استاذي محمود.. يا استاذ الوفاء والكلمة الحلوة وصاحب الرسمة الحكمة والامثولة. أرجو الا تزعجك كلمتي.. رحمك الله.

* ريتشارد جير.. الكاريكاتير

* فوزي حداد

مرة وفي فترة عز بيروت وتألقها، وقبل ان تلتهمها الحرب الاهلية القذرة، شاهدت اعلانا تسويقيا في «الكابيتول»، احدى ارقى صالات السينما في العاصمة اللبنانية، متوجا بقامة شاب وسيم يتقدم طابورا من ركاب طائرة «لوفتهانزا» ألمانية هبطت في مطار بيروت الدولي ذلك الوقت وهي تغص بالمسافرين.

للوهلة الاولى اعتقدت وتكهنت، وربما غيري الكثير من المشاهدين، ان الشاب الوسيم الذي استعانت به الخطوط الجوية الالمانية اعلانيا يمكن ان يكون من بون او هامبورغ او شتوتغارت. ليس هذا المهم، وليس هذا بالتالي القصد.

فالمقصود هو انه عندما كان مصعد مجلة «الاسبوع العربي» يحتويني لمقابلة ياسر هواري، رئيس تحرير المجلة التي كانت متألقة ومتقدمة في عهده ايام زمان، فوجئت باطلالة شاب «لوفتهانزا» نفسه ينتظر وصول المصعد الى الدور السابع، وبفضول تلقائي وسريع سألت اول من صادفته، من هو هذا الانيق بشعره الفضي وبكل تفاصيله، فكان الجواب: محمود كحيل.

لقد كنت وأنا محرر يافع في صحيفة «الحياة» البيروتية اتابع كاريكاتير كحيل بانتظام في مجلة «الحسناء»، اسوة بمتابعتي اليومية لريشة المبدع الآخر بيار صادق في صحيفة «النهار». وعندما التحقت باسرة مجلة جورج ابو عضل، كان هناك نجمان يسطعان بانتظام اولهما نزار قباني شعرا، وثانيهما محمود كحيل رسما.

في لندن وفي ردهات مبنى المجموعة السعودية للابحاث والتسويق، لا احد بحاجة اليّ لكي اسرد له سيرة عبقرية محمود كحيل ودماثته ومناقبيته. وكذلك الامر بالنسبة الى المؤسسات الاعلامية العربية والاجنبية على حد سواء. بل سأكتفي بحديث دمعتي. لقد ترجل عن الصهوة محمود كحيل او ريتشارد جير الكاريكاتير، وشرد الجواد بعيدا يبحث عبثا عن فارسه المميز والاستثنائي.

* متدفق الأضواء

* أسامة نعمان

لغز الحياة وحيرة الالباب

أن يستحيل الفكر محض تراب*

العزيز الكحيل محمود، لم اعرفك طويلا، ولم أتعمق في معرفتك، الا ان ايام العمل معا جعلتني احد «مريديك».

اللامع ذو النظرة الثاقبة: الكحيل بسيط وقليل الكلام، ربما لأنه كثير التأمل يبحث عن الجانب الحقيقي لخفايا الاحداث ليعبر عنها بكاريكاتير جريء، آني، يواكب كل الاحداث، والكثير من التطلعات الحقيقية للبشر العاديين والتي ربما لا يستطيع التعبير عنها كاتب مقال الرأي.

الكحيل المتألق: نجم عربي متدفق الاضواء، لم يحرم من شعاعاته اي عربي. غمر كل العرب بالفرح والأسى وحب العدالة والبحث عن الحقيقة الضائعة بين ثنايا المقالات المدبجة والاخبار التي لا يستطيع حتى المتابع التعرف على صحتها.

لقد عاش محمودا وكحيلا.. وسيظل بيننا محمود كحيل.

* مطلع قصيدة للشاعر العراقي محمد سعيد الجواهري نظمها عام 1959 لإحياء ذكرى الشاعر معروف الرصافي

* صفحة كحيل

* سكرتارية التحرير

تعودنا في سكرتارية التحرير، وخلال التعامل اليومي مع الزملاء في قسم الانتاج، ان نسمي بعض الصفحات بأسماء مشتقة من مضامينها غير تلك التي تحملها في ترويستها.

وحدها صفحة الرأي الأولى، استمدت كنيتها من اسم نجمها اليومي. صفحة كحيل اسميناها.. أردنا بالاسم ايجازا، لكن اتساعه كان اكثر تعبيرا عن ريشة تألقت في اختصار الموقف والفكرة، في صفحة تعودت على الاطالة.