إنه ليس ككل الفنانين

TT

قبل نحو شهر سأل محمود كحيل مستغربا بعينين واسعتين، قال: «هل صحيح انه صار ممنوعا نقد الحكومة الاميركية؟ معقول، معقول؟!». طمأنته بانها آخر المحرمات ووعدته بأن اعطيه خطابا يجيز له لطم الحكومة الأميركية مائة سنة أخرى، فرد «اذاً لماذا غاب رسمي حول وزير الدفاع رامسفيلد.. الا تعتقد ان رامسفيلد هذا غليظ؟». الحقيقة لا ادري لماذا لم يظهر الرسم في موعده، ولا بدّ ان ذلك حصل بفعل خطأ لا بسبب محظور.

كيف اصور هذا المبدع المنزوي دائما في غرفته، انه ليس بالشخصية المعقدة الصعبة رغم هذا الكم الكبير من الابداع، انه تحد حقيقي للجاذبية الفنية. في مرسمه في الدور الأول من مبنى هذه الجريدة عاش حياة ليست سينمائية، ورغم عاديتها استطاع منها التعبير عن كل العرب بلا كلمة واحدة. كحيل، عدا كونه رساماً مبدعاً وعظيماً بما تعنيه الكلمة، صاحب شخصية رائعة وقريب من القلب. باختصار انه ليس ككل الفنانين. في فنه لم يهبط، ولم يقفز، ولم يستعرض، ولم يكل او يمل في رحلة طويلة من الابداع الحقيقي الذي وضعه على خريطة الرسامين العالميين. وبخلافهم، كحيل لم يكن مجنونا، ولا هيبيا، ولا مغرورا، ولم تظهر عليه علامات مس الفنانين. منضبط في مواعيده، وامين في الوفاء بالتزاماته، ودؤوب ومحب لعمله. شخص أليف جدا، بخلاف ما عرفنا عن معظم ابناء مهنته من فوضوية ونفور ووحشية. حتى في هندامه يبدو كاستاذ او رجل اعمال، أنيق بلا تكلف، ومرتب المظهر لا يخرج عن المألوف. أيضا هو من قلة من الرسامين الذين لم يعرفوا المزاجية، داء الفنانين.. عسكري يحمل ريشة، في غاية الانضباط وفي قمة الابداع. قصة محمود كحيل، فريدة بعقلانيته ودأبه وحدبه ومشواره الطويل الذي لم يتخلف يوما فيه عن اقلامه وألوانه الا لسبب كان في عيادة ضرورية، او عملية جراحية.

نعم، الانضباط ليس خصلة ابداع لكنه من اسرار تفوقه على نفسه، ومن اسباب استمرار تألقه في عالم الرسم اليومي الذي يأكل عقل الانسان مهما بلغت مواهبه. ومحمود مثل رسومه، قليل الكلام، وصاحب مواقف كبيرة. لا قضية شخصية عنده بل قضايا العامة هي قضاياه، له خطه ورأيه واستقلاليته، ومهما اختلفت معه لا بد ان تتفق مع رسائله في لوحاته.

بالنسبة لي كانت الاشهر الماضية عاصفة بالحزن والاحداث المؤلمة بما فقدته من اصدقاء في ساعات غير محسوبة. ومحمود على المستوى الشخصي كان صديقا ايضا، عملنا معا تحت سقف واحد 17 عاما، وخلال السنتين الماضيتين كانت فترات حياته متعبة بسبب عدة عمليات جراحية اجراها في قلبه، وكان منتظرا ان تكون عملية اول من امس هي الأخيرة ليعاود عافيته، فصارت الأخيرة ليختم حياته.

أنعي اليكم انسانا كانت حياته من حياتكم، وكانت لوحاته تعابيركم، خسرناه فنانا من اروع رسامي الكاريكاتير في العالم، وفقدته صديقاً عزيزاً.