عبقرية النهار

TT

عملنا، محمود كحيل وانا، المرة الاولى في «الاسبوع العربي» العام 1975. كان هو الرسام، الفنان، الحرّ، وكنت انا في رئاسة التحرير، يقيدني الف قيد ويأسرني الف اسر. وكان يفترض بي ان اطلع على كل ما في المجلة قبل صدورها، الا لوحة محمود كحيل، فقد كان يطيب لي ان اتمتع برؤيتها مع بقية القراء وعموم الناس، الذين كانت لهم في ما يقرأون اذواق، وكان لهم في لوحة محمود كحيل هوى واعجاب واجماع.

منح محمود كحيل نفسه حرية الفنان وحمى نفسه من الرقابة الذاتية التي تلازم العاملين في الصحافة العربية. وكان بلمسة ريشة منه، يسابق الافتتاحيات او التعليقات او الرأي. وقبل غيابه بيومين، كنت اقول له انني من اولئك الذين يتأملون في لوحته. كل فاصلة وكل خط وكل تعبير، كمن يلاحق في صحن الحلوى الفتات الصغير خوف ضياعه.

عرف الكاريكاتور العربي عدداً قليلاً جداً من المبدعين. اولاً بسبب غياب الحريات، وثانياً بسبب صعوبة هذا الفن. وخصوصاً في العمل اليومي الذي هو امتحان شاق. وبرزت في مصر ولبنان اسماء كبرى: من صلاح جاهين الى بيار صادق. لكن جاهين الشاعر او جاهين الرسام او جاهين العاشق، ظل مصرياً وان كان الاول في مصر. وصادق ظل لبنانياً ولو الاول في لبنان منذ عقود. محمود كحيل خرج الى التجربة العربية الواسعة. كانت لوحته عملاً مهماً بالنسبة الى العراقي والفلسطيني والمصري والسوداني. وعلى نحو ما، كان ذلك تحدياً يومياً كرّس له حياته وفكره واجتهاده الدائم. لكن اهم ما اعطاه، هو الحرية. لم يؤخذ يوماً بعتاب من احد. ولم يساوم على لمحة ذكية. ولم يتساهل في تعبير ساخر، يصور الحقائق في الملامح.

اما هو فكان نقيض ما يبدع. كان وسيماً هادئ الطبع سكين النفس. ومن وسامته عرضت عليه في شبابه ادوار في السينما والتلفزيون. ولم يعرف احد منا اهله حتى بدا للبعض انه بلا اهل. لكن اقصر صداقة في صداقاته كان عمرها اربعين عاماً. كان يستحيل اذا دخل احد صداقته ودماثته ووداعته، ان يخرج منها. وكان عالمه في لندن رفاقه من ايام الجامعة الاميركية في بيروت. وعندما اعلنت ساعته الحزينة المحزنة مساء الثلاثاء، كان السؤال العفوي: «في منزل مَن نتقبل التعازي؟». وقال البعض في «منزل بشير العظم لأن محمود كان يمضي فيه عطلة الاسبوع». او بالاحرى ما له منها، فلم تكن لديه عطلة. وقال الدكتور سعيد الكرمي القادم خصيصاً من واشنطن والذي لم يغب عن اي عملية جراحية اجريت لمحمود، ان الانسب للتعازي مسجد ريجنت بارك لأن الناس تعرفه بسهولة. وكان رأيي ان الناس سوف تعزي نفسها في وفاة محمود قبل ان تعزي به احداً. فالذين يعرفونه كانوا يشعرون انه جزء منهم، والذين لا يعرفونه يشعرون انهم فقدوا جزءاً من عبقرية النهار ومتعة اليوم. والناس تعلق اللوحات الفنية على جدران منازلها، اما لوحة محمود كحيل فكنا نهفو الى الجديد منها كل صباح، والسابق منها نعلقه في ذاكرتنا، او هو يعلق نفسه، بسيطا وديعاً ساخراً، بالابيض والاسود، وبمسامير من ذهب. او من عبقر.