ليس في أزمة العراق الأخيرة أي صراع للحضارات

TT

مهما كانت طريقة حل الأزمة مع العراق، هناك حقيقة واحدة تأكدت، الا وهي: ان هذه الأزمة لم تتسبب في أي «صراع للحضارات» كما توقع بعض منذري السوء.

ولو كان هناك شيء من هذا القبيل، فان هذه الأزمة أثبتت ان الصراعات كانت ناتجة عن مصالح سياسية وليس عن اعتبارات لها علاقة بالحضارة (بما فيها الدين).

مع بداية آخر مرحلة لهذه الأزمة، حذرت جريدة «اللوموند» الفرنسية اليومية في مقال لها من مضي العالم نحو صراع بين الاسلام والغرب. ولم يأبه مقال الجريدة، بطبيعة الحال، بطرح السؤال التالي: وماذا بعد؟

فالعالم لا يمكن تقسيمه بين «الغرب»، الذي يشكل تعبيرا جغرافياً غير متماسك، والاسلام، وهو وصف شامل لكم هائل من المعتقدات والممارسات الدينية. فالقيم لا يمكن قياسها، ولا يمكن تحديد المواقف استنادا الى ما هو «غربي» أو «اسلامي». وهذا النوع من العشائرية في القيم لا يمكنه فرض أخلاقيات الرجل الحديث. ولا يمكن اعتبار فعل خاطئ صحيحا لأن من ارتكبه غربي أو مسلم، كما قد يطرح البعض.

وهكذا فان موقف أولئك الذين سعوا لتصوير جورج بوش على انه يقوم بدور «منقذ الغرب»، ممن يفترض انهم يرفعون الصليب أمام الهلال، لا يختلف من حيث سوء التقدير عن موقف أولئك الذين يصورون صدام على انه رافع راية الاسلام.

ولا يمكن لأي منهما ادعاء تمتعه بالتأييد المطلق لما يفعله كل منهما بلا روية. فحالة التردد التي يعاني منها الرأي العام في الولايات المتحدة تستبعد أي افتراض بأن الجميع سيقفون خلف بوش مهما كانت تطورات الموقف خلال الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة. وهناك العديد من قادة الحزب الديمقراطي، وحتى بعض الجمهوريين أيضا، ممن يعارضون استخدام القوة للاطاحة بصدام حسين. كما ان هناك ما لا يقل عن أربع من كبريات الصحف اليومية الأميركية لا تبدو متحمسة لسياسة بوش تجاه العراق.

ويتعرض موقف رئيس الولايات المتحدة للانتقاد حتى من أوساط حزبه السياسي. فقد انبرى وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر مدافعا عن اتباع اجراءات للاطاحة بصدام، وها هو برنت سكوكروفت، مستشار بوش الأب الأمين يطرح آراء معارضة.

كما يعاني حلف شمال الأطلسي هو الآخر من حالة انقسام. فبينما تقف تسع من دول الحلف تتزعمها بريطانيا بقوة الى جانب الحكومة الأميركية، تتبنى فرنسا والمانيا وبلجيكا موقفا معارضا. وفي الواقع فقد حشدت فرنسا والمانيا كل جهودهما الدبلوماسية والسياسية، وبعض مواردهما العسكرية، لمنع الولايات المتحدة من الاطاحة بصدام.

ولسنا بحاجة لطرح ان الرأي العام في الديمقراطيات الغربية يعاني من نفس حالة الانقسام. وهي الحالة السائدة حتى في أوساط الجماعات الدينية. فبابا الفاتيكان يؤيد تيار «عدم الحاق الأذى بصدام»، بينما هناك من يدعو للاطاحة بحاكم العراق المستبد. ويمكن للمرء أن يتعرف على مواقف متعارضة في أوساط مختلف التيارات الدينية بدءا باليهود وحتى الهندوس، ومرورا بالانجيليين والبوذيين.

انقسامات مشابهة يمكن التعرف عليها في العالم الاسلامي. وحتى الآن جرت المظاهرة الكبرى ضد استخدام القوة في العراق، في العاصمة الاندونيسية جاكرتا، حيث احتشد عدة مئات يوم الجمعة الماضي للتعبير عن رأيهم. أما بقية المظاهرات الأخرى المعادية لبوش فقد تمت في برلين وباريس ولندن وواشنطن وسان فرانسيسكو.

وهذا الانقسام يشمل الطرح النظري أيضا. فتيار «لا تلحقوا الأذى بصدام» يضم كلا من الرئيس الفرنسي جاك شيراك ومنافسه الرئاسي جان ماري لوبين. وهناك أيضا الأميركي الفصيح ناعوم شومسكي الذي لا يقل اعجابه بصدام عن اعجاب الفاشي الجديد في النمسا غورج هايدر. وفي بريطانيا يضم معسكر صدام اليساري العتيق توني بن، تماما كما هو حال ديغوليي فرنسا.

ولا تخلو الدول العربية والاسلامية هي الأخرى من انقسام الآراء. فهناك ما لا يقل عن ست من الدول العربية ممن وافقت على استضافة قوات أميركا وحلفائها. ومن بين الدول الاسلامية فتحت تركيا أراضيها لغزو العراق بينما لم تخف ايران استعدادها لمد يد العون للأميركيين، طالما تمت العملية بدون ضجيج يذكر.

وقد تبنت شخصيات اسلامية بارزة هي الأخرى مواقف متعارضة. فبينما انتقدت بعضها استخدام القوة للاطاحة بصدام حسين رحب آخرون باحتمال ذلك. ومن بين الشخصيات الشيعية البارزة هناك آية الله سيستاني والشيرازي، اللذان أيدا بحماس استخدام القوة لتغيير النظام العراقي. لكن آخرين من أمثال محمد حسين فضل الله، الزعيم الروحي لحزب الله في لبنان، عارض الفكرة بشدة.

وبطبيعة الحال، لا يمكن لأي شخص تقديم صدام حسين على انه بطل الاسلام مهما كان الطرح. اذ لم يشهد تاريخ الاسلام الذي يمتد لخمسة عشر قرنا من الزمن، أن رأى شخصا يتحمل مسؤولية موت كل هذا العدد من المسلمين، كزعيم العراق.

وقد أدت الأزمة الحالية الى انشقاق في الأمم المتحدة وفي الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي، وغيرها من التجمعات الدولية التي يفترض ان تكون مهمتها الأساسية هي تحقيق الوئام في المواقف ورعاية التوحد. ولن تنجو أي من هذه المنظمات من أي تأثير محتمل لهذه الأزمة ولعواقبها التي لم تتجل بعد.

وحقيقة ان أزمة العراق الحالية تسببت في اثارة هذه الحالة من الانقسام والحيرة في الطرح النظري، قد تكون ناتجة عن عاملين; الأول، هو انه مع نهاية الحرب الباردة يبدو ان عصر التحالف الآلي قد بلغ هو الآخر مرحلته الأخيرة. فقد باتت فرنسا والمانيا تدركان الآن انهما تستطيعان تحدي الولايات المتحدة بدون تعريض أمنهما لخطر عدو مشترك.

وسيدرك تلامذة التاريخ، على أية حال، ان الجدل الأخير يعد علامة أخرى على أن النظام العالمي يستعيد تلك الحالة التي كانت سائدة تاريخيا قبل أن تقسم الحرب الباردة البشرية الى كتل متنافسة.

وبعبارات أخرى يبدو اننا نتجه صوب ممارسات سياسية اعتيادية تشمل طرح المرء لتحليلاته الخاصة المتعلقة بأية حالة، واختيار موقف ما من أي نزاع، ثم وضع سياسة منفصلة تجاه أي من القضايا المطروحة.

ولو ان شيراك ومستشار المانيا غيرهارد شرودر يصارعان بكل قوتهما لمنع بوش من الاطاحة بصدام، فانهما لا يفعلان ذلك لأنهما يعشقان حاكم العراق المستبد. بل انهما ببساطة يسعيان لمنع الولايات المتحدة من تثبيت أقدامها كالقوة المسيطرة التي لا تقاوم في عالم اليوم.

وبشكل يدعو للتأمل، فان هذا هو نفس الدافع الذي جعل رئيس وزراء بريطانيا توني بلير ونظيريه الايطالي والاسباني وغيرهما من الأوروبيين يدعمون الولايات المتحدة في هذه الأزمة. فهم يعتقدون ان أفضل وسيلة لضمان عدم تبني الولايات المتحدة سياسة أحادية الجانب، هي أن يقفوا الى جوارها بشكل أو بآخر وأن يسعوا من أجل التأثير على سياساتها.

لقد وفرت أزمة العراق لمعارضي أميركا فرصة ثمينة لم يكونوا يحلمون بها منذ عام مضى. لكن من غير الصواب اعتبار ان تعاظم نفوذ التيار المعارض لبوش في هذه اللحظة، يعد مؤشرا على معاداة أميركا أيضا. وعلى سبيل المثال، نرى انه بينما تسعى باريس لعرقلة خطط واشنطن الرامية للاطاحة بصدام حسين، ها هم الدبلوماسيون الفرنسيون منهمكون في استقطاب الولايات المتحدة لكي تشاركهم عرضا آخر للقوة في ساحل العاج حيث قد تجد القوات الفرنسية الموجودة هناك، نفسها في موقف حرج.

أزمة العراق الحالية تمثل استعراضا مثيرا للألعاب النارية الدبلوماسية. لكن ما يهمنا هنا هو المحصلة النهائية: هل سيبقى صدام حسين في السلطة حتى شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2004 عندما يسعى جورج دبليو بوش لاعادة انتخابه رئيسا للولايات المتحدة؟