الشعوب العربية تعودت الغناء عن الحب بصوت شجي!

TT

كلما تقدم العمر بالانسان، بدأ ماضي حياته تعلوه الغشاوة، وتنطمس ملامحه، مثل المسافر الذي يستقل قطارا الى وجهته الاخيرة، ويظل يلاحق بشغف من زجاج النافذة مراحل عمره حتى تتلاشى تدريجيا من امام ناظريه. لكن تبقى ملامح الوطن عالقة في فكر المرء، مثل الصورة الجميلة المثبتة على جدار غرفة النوم، صعب على احد ان يقتحم خصوصيتها، فهي لصيقة بالفؤاد، من غير الممكن زحزحتها من مكانها حتى لو علتها اتربة الايام وتعرضت لعوامل تعرية الزمن!

مع هذا هناك فئة من الناس عندما تدهس اقدامهم ارضا جديدة يصيبهم مرض الخرف المبكر، وينسون كل تضاريس حياتهم الماضية داخل اوطانهم التي تركوها خلفهم، غير آبهين بالاثمان الباهظة التي يدفعونها مقابل استبدالهم اوطانهم بأوطان مغايرة لا تمت لجذورهم بصلة، بل ويقومون بتغيير جلودهم كما تفعل الافعى، حتى يحمون انفسهم من الاخطار المحدقة بهم، او من اجل الحصول على اوراق ضمان دائم لهم ولأولادهم من بعدهم، او ليقطعوا كل صلة لهم بالماضي الذي تركوه خلفهم. نعم هناك اناس اضطروا الى التشدق بعبارات جوفاء في مجالس الغرباء، وهناك من باعوا ضمائرهم من اجل ان يثبتوا حسن نواياهم في البلاد التي هاجروا اليها، وهناك من قدموا خيراتهم للمنافي لكي ينتزعوا ملكية رقعة يقيمون عليها. من الممكن ان يفعل المهاجر كل هذا اذا سيطر الخوف على قلبه، مقررا ان يجعل ذاته هي الوطن! وقد استعرت التعبير الاخير من احد قرائي المتميزين، الذي القى الضوء من خلال رسالته على بعض العراقيين المقيمين في الولايات المتحدة الامريكية، الذين قدموا خبراتهم وعلمهم من اجل الترويج للحرب على العراق، متسائلة في قرارة نفسي.. هل من الممكن ان تُقايض الاوطان على يد ابنائها؟! وهل للاوطان اثمان؟! وهل هناك مبرر للجوء الى مثل هذه الوسائل الوضيعة، حتى لو اتفق الجميع على نبل الغايات؟! وهل بيت الشعر الشهير.. بلادي وان جارت علي عزيزة، واهلي وان ضنوا علي كرام، الذي علمونا اياه في صغرنا، كان ضربا من الهذيان، لشاعر لم يعش ليرى ما حل اليوم من وبال على امتنا العربية؟! ام ان المصالح والغايات تشابكت حتى اصبحت صمام الامان لكافة شعوب الارض؟! واستشهد هنا بعبارة للكاتب محمد حسنين هيكل.. «ان الاخلاق والقوانين لا تقنع احدا بأن يتخلى عن ارضه ووطنه وحياته للغرباء، الا اذا كان مرغما، مقهورا».

لقد داهمتني هذه الخواطر وانا اقرأ عن اجتماع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، في مؤتمر حزب العمال في مدينة غلاسكو، لتبرير وجهة نظره في اختيار قرار الحرب، مستشهدا في خطابه الذي القاه، برسالة من فتاة عراقية تقيم في بريطانيا، وتدرس في جامعة كمبريدج، يتضمن محتواها رفضها المشاركة في المظاهرات المعادية للحرب على العراق، لأن صدام قتل اكثر من مليون عراقي على مدى ثلاثين عاما، وانها تحلم بالذهاب الى عراق حر! ومع تحفظي على كلمة «حرية»، حيث ان معظم الشعوب العربية لا تعرف معناها! الا ان رئيس الوزراء البريطاني لم يعلن لجمهور الحاضرين النتائج السلبية المترتبة على حرب العراق، ولم يبين كم من ابناء الشعب العراقي سيقتلون في هذه الحرب المحتملة! ولم يوضح الثمن الباهظ الذي سيدفعه الشعب العراقي، من خلال امكانية استخدام امريكا في حربها على العراق، لليورانيوم المشع الذي سيؤدي الى حدوث تشوهات نفسية وخلقية على مدى سنوات. كما ان توني بلير لم يقل ان هذه الفتاة لم تطأ قدماها يوما ارض بلادها، وانها ولدت في المنفى، وأن مذاق الوطن من الصعب على المواطن الحقيقي ان ينساه، والا لصارت الاوطان مثل القرابين التي يتم تقديمها في المناسبات الدينية، بحجة انها تطبيق للشرائع السماوية!

لقد قامت مجموعة من داخل بريطانيا، برحلة الى العراق لتشكيل درع بشري، للحيلولة دون قصف العراق، بالرغم من الصعوبات النفسية والجسدية التي تعرضوا لها اثناء الرحلة. وقال احد المشاركين.. عندما اعود الى بريطانيا في نهاية الرحلة، سأكون منهكا، ولكني سأشعر وقتها بأنني فعلت كل ما في وسعي. حتى داخل امريكا نفسها، قامت مظاهرة حاشدة في هوليوود، تضم عددا من مشاهير الفنانين، تعبر عن معارضتهم لضرب العراق، في مواجهة مباشرة ضد توجهات بلادهم! وفي جميع ارجاء العالم خرج الملايين يعلنون تضامنهم مع الشعب العراقي، ورفضهم لخيار الحرب، والتنديد بسياسات امريكا في العالم، وأليس من اجل القاء التحية على صدام حسين، الذي يتفق الجميع على طغيان نظامه!

كل هذه الصور المتشابهة، دغدغت مشاعري، وجلعتني اوقن بأن شعوب العالم ما زالت تعرف قيمة الانسان، وتدرك قيمة الاوطان، بعكس الشعوب العربية التي تعودت منذ زمن بعيد، الغناء عن الحب بصوت شجي يطرب السامعين، وحين يأتي الحديث عن قضاياها المصيرية، تؤثر الغناء بصوت خافت، بالكاد يسمعه من يجاورها، معلنة اعتراضها على خيار الحرب بصوت شبيه بصوت العذراء.. حين يسألونها عن رأيها في العريس المتقدم لها، فتجيب بحياء الانثى!

أدري ان طبول الحرب تقرع وانا اكتب كلماتي هذه، لكن ألا يعلمنا موقف الناس التي خرجت الى الشوارع، معلنة رفضها لسياسات حكوماتها، ان الديمقراطية فعل يمارس على ارض الواقع، وليس مجرد شعارات جوفاء تلقى في الخطب والمناسبات الرسمية، وان ما يجري في الواقع يؤكد حقيقة لا مجال لانكارها، وهي ان الديمقراطية لا مكان لها على الارض العربية؟! ليس تسجيل موقف تاريخي مشرف امام التاريخ، افضل الف مرة من ان ندع السيول العارمة تغمرنا، ثم نقول هكذا ارادت مشيئة الرحمن، في الوقت الذي يرفض ديننا التواكل، ويحث على العمل وتغيير المنكر بكل الوسائل؟! أم أن دع الخلق للخالق، ووضع اذن من طين واذن من عجين، هما المبدأ الذي يجب ان تسير عليه الامة العربية والاسلامية الى ان يرث الله الارض ومن عليها؟!