كذابون يرفعون شعارات صحيحة منذ نصف قرن

TT

شاهدت برنامج «بلا حدود»، واستمعت إلى الحوار الشيق الذي أداره مقدم البرنامج، أحمد منصور، مع الكاتب والأكاديمي المعروف د. عبد الله النفيسي. وأود التوقف عند بعض ما طرح فيه من نقاط تستحق المناقشة والحوار.

عندما سئل د. النفيسي عن الشريط الصوتي لزعيم «تنظيم القاعدة» أسامة بن لادن، قال كلاماً معناه أن التوقيت مهم، وأنه حرك الأوساط في أمريكا والغرب. وأنا أتفق معه بأن الشريط بظهوره وبما احتواه من أفكار، أوجد بعض الضغوط النفسية على صناع القرار في أمريكا.. ولكن ربما يتفق معي النفيسي بأن الشريط أيضاً أعطى «الحجة البالغة» لصناع القرار في أمريكا وفي الغرب عموما، بأن ثمة صلات مباشرة بين النظام في العراق وبين «تنظيم القاعدة»، وهذا ما يتمناه أولئك للتذرع بهذه الصلة من أجل ضرب العراق عسكرياً.

ثم إن د. النفيسي ـ وليعذرني إن كان فهمي خاطئا ـ تناغم مع زعيم «القاعدة» في طروحاته بشكل او آخر، وكأنه موافق عليها، مع أنها أفكار بدائية متخلفة.. لا تمثل الإسلام ولا تُشرِّف المسلمين. وكم كنت أتمنى أن يعلق النفيسي، وهو المختص والمتابع للفكر السياسي في المنطقة، على «مضمون» خطاب زعيم «القاعدة» وافكاره، والتي تصب في مصلحة اليمين المسيحي المتطرف في أمريكا، وفي مصلحة الفكر اليميني المتطرف في اسرائيل.

وظف الغرب أفكار «تنظيم القاعدة» وعنترياتها لعرقلة جهود الدعوة والدعاة، ولفرض أجندة الغرب على العالمين العربي والإسلامي، ثم استطاع رئيس الحكومة الاسرائيلية، ارييل شارون، أن يوظف ذلك لضرب الفلسطينيين تحت شعار «محاربة الإرهاب» على مرأى ومسمع من العالم، ووجد من المناصرة من الدول الغربية ما لم يكن في الحسبان.

لقد اعتبر د. النفيسي، أن ما ذكره عميد السفراء العرب في واشنطن، الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز، سفير المملكة العربية السعودية، «تطاولا سفيها على العقيدة الإسلامية»، وانتقد اللقاء التاريخي الذي تم بين الأمير بندر بن سلطان والرئيس الأمريكي في تكساس، واعتبر أن ما يقوم به السفراء العرب من علاقات واتصالات في أمريكا يمثل إشكالية، وأنه ليس في مصلحة العرب أن يلتقوا بالمسؤولين في البيت الأبيض، وفي البنتاغون، وفي مقار أجهزة الأمن، إلى غير ذلك من الانتقادات والآراء التي تمثل غوغائية ثقافية لن تدفع بالعرب والمسلمين خطوة واحدة في طريق التقدم. وكم تمنيت ان يكون د. النفيسي قد رجع إلى أصل كلمة الامير وقرأها أو استمع إليها كاملة، وهو يعلم، أكثر من غيره، أن الإعلام ليس محايداً حتى في الدول الغربية، فهو ينشر ويذيع ويقدم على الشاشات ما هو متناسب مع ما يريد، وكما يقال دائماً «كلام جرايد» والأمير بندر ـ وقد عرفته عن قرب ـ من الرجال الغيورين على العقيدة، ومن السفراء الذين خدموا الجاليات العربية والإسلامية في أمريكا وغيرها، بمن في ذلك أهل الدكتور النفيسي وإخوانه الكويتيون، إبّان أزمة الكويت التي اعتبرها أزمته، وكان خير مناصر لاتحاد الطلبة الكويتيين في فرع أمريكا، وخير مناضل في المحافل الدبلوماسية والدولية لتحرير الكويت بشهادة من كانت له صلة بالأزمة. وكان من الضروري التأني في اطلاق الفتاوى السياسية التي تمس الأشخاص. كما ان النيل من السياسيين والبارزين «جزافاً» بأسمائهم، ليس في صالح الأمة في شيء. وهذا لا يعني أن الأمير بندر بن سلطان لا يخطئ، ولكن من المهم أن نحدد الخطأ وأن نضعه في مكانه المناسب، وكم من النافع أن نتحدث مع من نسب إليه الخطأ المحتمل قبل الحديث عنه.. إن أمكن ذلك .. بدون تجريح أو تفسيق أو تشكيك أو إدانة.

ولعل المقصود بما ذكره الأمير بندر ـ كما فهمت مما سمعت، وكما فهم غيري وهم كثر ـ هو عدم الثقة بمن يحملون اسم الجهاد وهم ليسوا مجاهدين إلا بالادعاء، ولا أظن النفيسي يعتبر قتل المسلمين في الجزائر جهاداً، ولا أظنه يعتبر الكوارث والتفجيرات التي قام بها بتفاخر «تنظيم القاعدة» في نيويورك وواشنطن وبالي وعمان والكويت جهاداً، ولا أظنه يعتبر ما كان يقوم به الأفغان طيلة 13 سنة بعد خروج جيوش الاتحاد السوفياتي سابقاً جهاداً، اذ ليس كل من يرفع شعار الجهاد مجاهداً، والدكتور النفيسي ـ وفقه الله ـ يعلم والقراء يعلمون، أنه منذ نصف قرن يرفع اناس كذابون شعارات صحيحة، من ذلك شعار الجهاد، وشعار تحرير فلسطين، وشعار محاربة أمريكا، وشعار تطبيق الشريعة الإسلامية، وغيرها. أما ما يعتقده الأمير بندر في الجهاد وغيره من شعائر الإسلام فليس محل شك أو مساومة ـ كما نحسبه والله حسبه ـ فهو خيار من خيار ولا يأتي منه ومن إخوانه وذويه إلا ما عليه الأمة من اعتقاد أو ممارسات، فهو من رجالات دولة تدعو إلى التوحيد، وتناضل من أجل الوحدة، وتحكم الشريعة وتمد رواق الدعوة، ولو كان على غير ذلك لعرف عنه منذ زمن، ولما كلف نفسه ببناء المعاهد والمدارس الدعوية والمساجد والمؤسسات الإسلامية، ويكفي أن يعلم الدكتور وغيره من المكترثين بأحوال الأمة، أن السفارة السعودية في عهده أعانت الأئمة والدعاة بما لم تقم به دول. وأنه عندما يذكر الخير وفاعلوه في أمريكا يذكر الأمير بندر. أكتب ذلك عن معرفة وثيقة، واطلاع لمدة سبع سنوات على الكثير مما كان يقوله ويقدمه في السر والعلن.

اما انتقاد النفيسي للأمير بندر على اجتماعه بالرئيس الأمريكي في مزرعته، وما ظهر في الصور من عدم تكلف، فذلك أمر يحمد للسفير السعودي، حيث أنه استطاع أن يجتمع بالرئيس في أجواء مريحة بعيدة عن الإعلام، وعن زحمة المشاغل، وعن اللوبي الصهيوني، وأن يحظى بالوقت الكافي، ليتمكن من طرح قضايا دولته وقضايا العرب والمسلمين بأريحية وتكامل.

ان الذين يحظون من السفراء بوقت كاف للجلوس في العواصم مع الزعماء والمسؤولين والمؤثرين هم السفراء الناجحون، أما السفراء والدبلوماسيون الذين يعيشون لأنفسهم، بعيداً عن هموم أمتهم ولا يستطيعون اختراق الحواجز الروتينية، فهم مبعوثون فاشلون.. لذلك لا أرى مبرراً لانتقاد السفراء العرب لأنهم يلتقون بالمسؤولين في مراكز أعمالهم أنى كانت، ولأنهم يختلطون بهم في إجازات الأسبوع، هذا هو العمل الدبلوماسي الناجح.

ان تلك الصور التي انتقدها الدكتور النفيسي في تكساس للأمير بندر بمزرعة الرئيس هي التي كنا في السعودية متأملين فيها بعناية عندما نشرت لعلمنا أنها جزء من نجاح «الدبلوماسية السعودية» وأن اللوبي الصهيوني لن «يتحملها»، فضلاً عن أن «يتقبلها»، لذلك استشرت الضغوط على الأمير بندر شخصياً وعلى زوجته، وعلى عائلته الحاكمة، وعلى دولته، وأصبحت المملكة العربية السعودية ـ كما في تقرير مؤسسة راند ـ «دولة معادية لأمريكا». وعلى أية حال فإن الدور الريادي الذي قام به الأمير بندر لصالح القضايا العربية والإسلامية في أمريكا ليس مسبوقا من الناحية التاريخية، وللدكتور النفيسي أن يحلله وأن ينقده.. إلا أنني متأكد أنه على مر السنوات سيكون ذلك الدور جزءاً من نجاحات «الدبلوماسية العربية» وليس «الدبلوماسية السعودية» فحسب، وإن اخطأ الأمير بندر أو قصر في بعض الأمور فذلك أمر وارد، والكمال لله وحده جل وعلا، والدكتور النفيسي له اجتهادات وكتابات ومواقف سابقة أخطأ فيها وقصر كثيراً باعتباره بشراً يصيب ويخطئ.

لقد تطرق د. النفيسي، إلى فتاوى العلماء في السعودية وانتقد ما وجه به وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في السعودية بعدم سب اليهود والمسيحيين على المنابر في المساجد أثناء خطب الجمعة، حيث أن ذلك «اعتداء» في الدعاء، وأطرى بإسهاب وإعجاب فتاوى الشيخ حمود العقلا الشعيبـي، الذي كان استاذاً للعقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل تقاعده رحمه الله. والحقيقة أنني احترت في ما طرحه النفيسي، وتساءلت عن مدى جدية طرحه، وهل يعني ما يقول حقا؟ أو أنه قال ما قال للمزايدة ولكسب الشارع.. كما يفعل الكثير من القيادات العربية السياسية والدينية والفكرية؟

المشايخ في المملكة ليسوا معصومين، ويمكن الرد عليهم ويمكن تخطئتهم ولو قرأنا فتاوى المفتين السابقين اليوم ربما لم نستسغ الكثير منها في زمننا الحاضر.. فهم رحمهم الله اجتهدوا وأفتوا، فإن أصابوا فلهم أجران وإن اخطأوا فلهم أجر، وما ينطبق عليهم ينطبق على السابقين واللاحقين من العلماء والمجتهدين في الأمة، وأما ما وجهت به الوزارة ممثلة في الوزير فهو أدرى بواقع الحال، والسباب واللعن من فوق المنابر حقيقة «اعتداء»، سواء كان المشتومون بالجملة من أهل الكتاب أو من المسلمين الذين يسمون عند البعض علمانيين.. لأنهم من أمة الدعوة فكيف نسبّهم ونشتمهم وندعوهم في نفس الوقت؟! وهل يمكن أن يفعل ذلك من يعيش في الغرب من الأقليات المسلمة؟ أم أن لكل مسجد دعاءه وسبابه وشتمه.. بمعنى اننا نقوم برسم خارطة للمساجد وكل مسجد يلعن أمة من الأمم وفئة من الفئات؟! يا للعجب لقد ظننت أن الدكتور أكثر حصافة وتنوراً مما هو عليه، وآمل أنه لم يعنِ ما يقول، فهو من أهل الرأي والفكر في هذه الأمة الجريحة.. ولو قال ما قاله في مقابلة متلفزة، فنحن بحاجة إلى إيضاح حقيقة الإسلام القائمة على العدل والقسط والسماحة والرحمة والعزة .. لا أن ننفر من الدين الحنيف بالتركيز على ما دعا إليه «تنظيم القاعدة» من صدام وخصام ومعارك وعنف وإرهاب. فالنفيسي بعلمه وفضله وخبراته خير من يحمل الرسالة «التنويرية» التي تصنع مناخ الوئام.. لا مناخ الصدام، ومناخ المعرفة .. لا مناخ الجهل، ومناخ التقدم.. لا مناخ التأخر، ومناخ التخطيط.. لا مناخ التخبط.

* كاتب وأكاديمي سعودي