الاحتفال

TT

كلما وقعت مناسبة ابديت اعجابي العميق بأبرز آسيوي في القرن العشرين: لي كوان يو. وقد يختار البعض لهذه المرتبة رجلا مثل غاندي، الذي هزم الاستعمار البريطاني وهو جالس الى نول صغير امام منزله. او قد يختار آخرون البانديت جواهر لال نهرو، الذي تزعم اكبر ديموقراطية في العالم في بلد لا يملك ما يأكل. ولكنني اعتقد ان لي كوان يو هو النموذج العالمي الذي انهض سنغافورة من بقايا الاستعمار ورزايا التخلف والفقر وجعل منها في اقل من ربع قرن دولة حديثة كفية يصعب تقليدها حتى في اغنى الدول موارد وثروات طبيعية.

هناك من اطعم شعبه طوال عقود خطابات طويلة، او قصيرة، او ملحنة. وهناك من وسع المدافن والسجون وغرف التعذيب. وهناك من وعد الناس بدول الآخرين وخيراتها. ولي كوان يو وجد امامه دولة صغيرة فقيرة فقال لشعبه، لا وقت لدينا للكلام، هلموا نعمل. وقد حرصت في السنوات الماضية على ان اقرأ كل ما وقعت عليه من كتابات الرجل او من مقابلاته الصحافية. وقد فوجئت في مذكراته ذات مرة بقوله انه عندما راح يحلم بشركة طيران وطنية اراد ان يبنيها على خطى ونموذج «طيران الشرق الاوسط».

وكنت اعرف طبعا ان «طيران الشرق الاوسط» كانت من افضل الشركات في العالم، لكنني لم اكن اعرف انها نموذجية الى درجة يريد لي كوان يو ان يقلدها. وبقي ذلك الكلام في ذاكرتي. وأمس، وأنا في الرحلة الى دبي، قيل لنا ان طائرة الشرق الاوسط هذه تقوم برحلتها الاولى، بعد شرائها من «اير باص». وكنا قد سمعنا في بيروت قبل يوم بوصولها من مصانع «تولوزا» وعليها وزير الاشغال ورئيس مجلس ادارة الشركة ووفد صحافي. او بالاحرى اعلامي، كما تسمى الصحافة هذه الايام، وكانت مناسبة الاحتفال الطنان ان هذه اول طائرة تشتريها الشركة منذ 25 عاما!

نعم. «الميدل ايست» التي حلم لي كوان يو بتقليدها، تحتفل، بالصور الملونة، بانها تمتلك اول طائرة منذ ربع قرن. الباقي ايجار واستئجار. وشكرا لفكرة التملك لكن لماذا هذا المهرجان. فقد كنا قد نسينا ان اهم وأول شركة طيران في العالم العربي باعت ذات يوم كل اسطولها بربع سعره. وكنا قد نسينا ان القضية احيلت على المحاكمة ولم نسمع او نرى حكما واحدا، فلم يعرف احد اين طارت الطائرات وان كان الجميع يعرفون انها طارت.

كان الافضل لنا، وللمسؤولين، ان يمر «الحدث» عاديا. ولا يحق لنا، في كل مناسبة ان نستحضر الماضي، لان ما مضى قد مضى. ولكن الشركة كانت في الماضي تدعو الصحافيين لتدشين الطائرات التي تضيفها الى اسطولها الذي اسسه صائب سلام قبل 60 عاما. وعندما حلم لي كوان يو بتقليدها كان على رأسها واحد من اهم الاداريين الرواد الذين عرفهم الشرق، اي الراحل نجيب علم الدين. وكان الملحق «الاعلامي» مع نجيب علم الدين، كبير مؤرخي لبنان، يوسف ابراهيم يزبك. وكانت زوجة نجيب علم الدين هي التي تشرف بنفسها على تدريب المضيفات وعلى حسن اناقتهن. ولم يكن ذلك المستوى الرفيع في الاداء والادارة يأتي عبثا او يولد من عبث. وحتى نحن اللبنانيون الذين اعتدنا التذمر من كل شيء والتأفف والشكوى، كنا نهفو الى السفر على «الميدل ايست» التي اختارها قراء «الصنداي تايمس» اوائل السبعينات «افضل شركة طيران في العالم». تلك الشركة هي التي «تحتفل» الآن «بتملك» اول طائرة منذ ربع قرن. او منذ ان كتب لي كوان يو انه يحلم «بتقليدها»، فيما تحلق الخطوط السنغافورية بواحد من اهم الاساطيل التجارية في العالم. ملكية لا استئجارا.