دور الفاتيكان والمسيحيين في حماية العراق

TT

كان العديد ينتظر ان تأتي مفاجأة الرفض من الشارع العربي، غير ان المفاجأة اتت من الشارع الغربي عموماً، والشارع الأوروبي خصوصاً. وبات على عواصم القرار الدولي وعواصم القرار العربي وحتى قوى المعارضة العراقية مراجعة حساباتها. وبدأت المواقف تتكشّف عن جبهة دول وشعوب مناهضة للحرب لا يمكن تجاهلها.

في البداية أوهمت الولايات المتحدة دول المسكونة من أقصاها الى أقصاها بأن حلفاءها في العالمين الغربي والعربي يقفون الى جانبها في حربها ضد العراق، مثلما وقفوا الى جانبها في حربها ضد الإرهاب. وغلب على العالم العربي هذا الوهم فانقسم بين مؤيد للحرب، ومطالب صدام حسين بالتنحي تجنباً لها، ومعارض لكل عمل عسكري وداعٍ للتسوية السلمية وفي المقدمة لبنان وسوريا.

أما أوروبا فانحاز بعضها الى الولايات المتحدة ومنها بريطانيا وإسبانيا، ووقف البعض الآخر ضدها ومنها فرنسا وألمانيا وبلجيكا، ثم روسيا والصين على المستوى الدولي.

ومع افتضاح امر تفرد الولايات المتحدة بقرار الحرب، فان جورج بوش لم يأبه لمصالح حلفائه الأوروبيين والعرب، وهو مستمر في غيّه لا يثنيه شيء عن مخططاته بضرب العراق، وكأنه «الكاوبوي» الذي يسوق العالم كقطيع بقر، بل هو يسوق بالسوط امبراطورية نووية في عالم شديد التعقيد فيحطم كالثور كل شيء في طريقه.

وتميزت دولة الفاتيكان، عاصمة المسيحيين الكاثوليك في العالم، بموقف جريء ومتمايز يهدئ من اندفاعة الثور الاميركي الهائج. فعلى الصعيد العملي اوفد البابا يوحنا بولس الثاني ممثله للمهمات الصعبة الكاردينال روجر أتشيغاراي الى العراق. وفي المقابل، أوفد الرئيس العراقي طارق عزيز، صديقه ورفيقه والرجل المسيحي الاول في السلطة العراقية، الى دولة الفاتيكان للقاء البابا. وكانت التفاتة مهمة من جانب طارق عزيز أن زار ضريح القديس فرنسوا الأسيزي الذي سعى الى وقف «الحرب الصليبية» وتحقيق السلام بين القادة الصليبيين وصلاح الدين الأيوبي، وكأنما كان يدعو البابا الى لعب دور في مصالحة مسيحية ـ اسلامية لمنع وقوع «حرب صليبية جديدة» في الشرق الاوسط.

ولكن المشهد الاكثر اثارة وايحاء كان تدافع ثلاثة ملايين ايطالي في شوارع روما المحيطة بالفاتيكان، وهم يتظاهرون ضد الحرب على العراق وكما لو أن روح القدس حلّ عليهم. ويُعّد هذا الامر جرعة كبيرة من الترياق الفاتيكاني للعراق. وبدا الانزعاج واضحاً جداً في المعسكر الاميركي، مما حدا بحليف الولايات المتحدة بامتياز، والمستشار الاول للرئيس الاميركي في شؤون الشرق الاوسط، رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير الى طلب زيارة الفاتيكان لشرح موقف دعاة الحرب.

لكن هذه الزيارة لن تثني الفاتيكان عن لعب دوره في حقن الدماء في الشرق الاوسط، لا سيما وأنه لا يزال يخطط للمجيء الى العراق يستكمل درب المسيح التي بدأها في عواصم المنطقة، وكانت محطتها الاخيرة سوريا.

وكان سبق تحرك عاصمة الكثلكة اشارات سياسية ارسلتها دوائر الفاتيكان الى واشنطن التي لم تلتقطها او التي لم ترغب في التقاطها. فقبل شهرين، وبالتحديد في السابع عشر من كانون الاول (ديسمبر) 2002، أعلن رئيس المجلس البابوي من أجل العدالة والسلام الاسقف ريناتو ماتينو بأن الفاتيكان يرى بأن «الحرب الوقائية» التي تعّد لها الولايات المتحدة العدة ضد العراق هي «حرب عدوانية» ولا تندرج في اطار مفهوم «الحرب العادلة»، وانها ستؤدي الى تصاعد موجة الارهاب وقتل المدنيين. ووصف الادلة التي تقدمها واشنطن لادانة العراق بأنها «غير مقنعة ومبهمة»، واشار الى انه من المحتمل ان تكون هناك «دوافع اقتصادية» وراء الحرب. وذكّر اخيراً بأن الامم المتحدة اتخذت قراراً بالمباشرة في «عمليات تفتيش داخل إسرائيل» عن سلاح الدمار الشامل، لكن هذا القرار أصبح «طي النسيان».

وجاءت مرافعة الفاتيكان المبكرة عن العراق في سياق مواقف البابوات السابقين حول الحرب. فمنذ الستينات أشارت رسالة البابا يوحنا الثالث والعشرين «ام ومعلمة» الى ان الخوف والتخويف يخيمان على الناس في مختلف بلدانهم. فكل بلد منتج للاسلحة يخشى الهجوم عليه من بلد مثله، والسباق الى التسلح على اشده، مما اوقع الانسانية في تناقض ملفت: من جهة بؤس وجوع، ومن جهة اخرى طاقات هائلة تذهب هدراً على صناعة اسلحة الدمار لتهدم ما بناه البشر. وقد ألح البابا يوحنا الثالث والعشرون منذ اربعين عاماً على الحاجة الى «منظمة دولية حيادية» تقوم «بنزع سلاح كامل يشمل جميع البلدان والنفوس». وقال في رسالته يجب احلال مقولة «لا سلام من دون ثقة متبادلة» محل مقولة «السلام ثمرة توازن التسلح».

وقد خلص البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير في عظة الاحد المنصرم الى ان البابا يوحنا الثالث والعشرين قد شهر «الحرب على الحرب»، ومهّد السبيل لخلفه البابا بولس السادس ليقول في منظمة الامم المتحدة: «لا حرب بعد اليوم»، وليتخذ البابا الحالي مواقفه المعادية للحرب على العراق.

ولا يمكن فصل موقف الفاتيكان عن موقف مسيحيي الشرق وكنائسهم وفي مقدمهم البطريركية المارونية في لبنان. والواقع ان الحملة الأميركية على العراق لا تراعي شعور الفاتيكان ولا تعاليمه، ولا شعور المسيحيين ومصالحهم في الشرق، ولا تسأل عنهم ولا تسأل رأيهم ولا تفكّر بمستقبلهم، ولا يهمها اذا ما تحولوا الى وقود لتصادم الحضارات ولصراعات طويلة ومريرة بين المسيحية المتصهينة الغازية والاسلام.

إن موقف الفاتيكان وموقف مسيحيي الشرق ينطلق من أن الحملة الأميركية على العراق تناقض وتقوض كل ما سعى الى تحقيقه البابا الحالي خلال زياراته لكل من لبنان ومصر والأردن وفلسطين وسوريا، ودعوته المسيحيين الى نبذ الانغلاق والتفاعل مع محيطهم العربي والاسلامي.

ولن يسمح البابا يوحنا بولس الثاني بحدوث «حرب صليبية» جديدة، وهو الذي اعتذر عن الحرب الصليبية الأولى. ولن يتسامح مع من يعمل على جرّ العالم الكاثوليكي، وراء الولايات المتحدة البروتستانتية الطامحة الى إحكام سيطرتها على العالم، ولاسيما على اوروبا الكاثوليكية عبر الحديد والنار والعنف والدماء. واتوقع ان ترتفع وتيرة الخلاف بين المسيحيين الانغلو ـ ساكسون اصحاب المذهب البروتستانتي، والمسيحيين الاوروبيين أصحاب المذهب الكاثوليكي.

ومثلما وقف مسيحيو الشرق ضد «الحرب الصليبية» في القرون الوسطى التي يصفها بابا الاقباط «بحرب الفرنجة»، فإنهم يقفون ضد «الحرب الصليبية» في القرن الواحد والعشرين، ولن يتورطوا مع واشنطن في حرب طائفية في لبنان ولا في المنطقة، وهم مستعدون لمقاومة أي حرب من هذا القبيل.

وقد دعوت قبل اشهر القوى المسيحية في العالم العربي الى «عقد مؤتمر عالمي للمسيحيين العرب» بهدف اظهار موقف مسيحي عربي موحد ضد الغزوة الاميركية ودعماً لحقوق العرب والمسلمين، وتأكيداً على ان المسيحيين العرب من كل المذاهب هم عرب واصيلون في الشرق الاوسط، وليسوا طارئين ولا متواطئين مع الاجنبي.

ان الفاتيكان والمسيحيين يحمون العراق الآن والمستقبل العربي غداً.