حرب من أجل الامبراطورية الأميركية

TT

«طبعاً.. تاريخنا القومي على امتداده هو تاريخ التوسع»

«ثيودور روزفلت»

الحرب الاميركية في العراق باتت مرجحة وان لم تكن قد اصبحت حتمية، وما يجعل الحرب أقرب الى الحتمية انها حرب من أجل «الامبراطورية الاميركية». لقد حاولت الولايات المتحدة بناء قضية الحرب بالتعذر بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ولكن ليس العراق وحده الذي يحوز تلك الاسلحة في العالم أو حتى منطقة الشرق الاوسط.

كما تعذرت الولايات المتحدة بأن النظام العراقي ينتهك حقوق الانسان ويرهب ويعذب الاطفال على مرأى من آبائهم، ولكن ليس العراق وحده هو الذي ينتهك حقوق الانسان، وهل اذا توقف النظام العراقي عن ترهيب وتعذيب العراقيين، ستتجاهل الولايات المتحدة حيازته لأسلحة الدمار الشامل؟

وتتعذر اميركا بأن العراق يمثل تهديدا محدقا بجيرانه بل ان تهديده قد يصل الى عقر دارها اذا سرب اسلحته البيولوجية والكيماوية الى تنظيمات إرهابية مثل «القاعدة» بزعامة بن لادن، ولكن واشنطن تواجه تناقضا بهذا الخصوص عندما تصرح بأن العراق «ضعيف» لدرجة ان الحرب ضده ستكون بين ست ساعات وستة أسابيع على نحو ما قال وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد، فضلا عن فشل واشنطن في تقديم دليل على علاقة بين صدام و«قاعدة» بن لادن.

ان أعذار امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وانتهاك نظام صدام حسين لحقوق الانسان، والصلة بين صدام وبن لادن، تمثل الذرائع للحرب الاميركية في العراق حيث انه لا بد للحرب من ذريعة، ولكن قضية الحرب مسألة أخرى وهي قضية التوجه الامبراطوري للسياسة الخارجية والدفاعية الاميركية، بعد تردد.

وهذا التوجه الامبراطوري ليس نتيجة لتولي الادارة الجمهورية الحالية الحكم، وان دفعت به مجموعة الصقور والمحافظين الجدد التي تستند اليها ادارة جورج دبليو بوش، كما ان احداث 11 سبتمبر الإرهابية، لم تكمن وراء ذلك التوجه الامبراطوري وان أنهت التردد بشأنه.

لقد كان سقوط الشيوعية ثم زوال الاتحاد السوفيتي نهائيا عام 1991، وانتصار اميركا في حرب الخليج خلال العام نفسه، نقلة كبيرة في المسار الاميركي نحو الامبراطورية، بعد نقلة عام 1890 التي اكتمل فيها فتح شمال اميركا، ونقلة الحرب العالمية الأولى التي اصبحت بها أميركا قوة عالمية على المسرح الأوروبي، ونقلة الحرب العالمية الثانية التي بها تحولت أميركا الى قوة عالمية عظمى، لتأتي نقلة 1991، لتصبح الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم.

وبعد تشوش بسبب النصر الكبير في الحرب الباردة وحرب الخليج، اتجه التفكير الاستراتيجي الاميركي توجها امبراطوريا، فعقب حرب الخليج وضع موظفان غير معروفين نسبيا في ذلك الوقت في وزارة الدفاع (البنتاجون) ورقة سميت «دليل السياسة الدفاعية» عن الاستراتيجية الأميركية خلال عقد التسعينات، وكان الموظفان هما بول ولفويتز، وآي لويس ليبي المشهور بـ«سكوتر»، وقد عرفا بقربهما من رئيسهما ديك تشيني وزير الدفاع وقتئذ.

وتضمن «دليل السياسة الدفاعية» وجوب التفوق العسكري العالمي ومنع قيام أي قوة مناهضة للولايات المتحدة، ووضع سياسة تشيني «الحرب الاستباقية» ضد الدول المشتبه في تطويرها لأسلحة الدمار الشامل.. وهنا أطلت حالة العراق برأسها، لقد كان «دليل السياسة الدفاعية» مزعجا لدى وضعه، حتى ان السيناتور جوزيف بايدن، عندما قرأ ما سرب منه الى «نيويورك تايمز» في ربيع 1999 تملكه الرعب والهلع ووصفه بأنه دعوة الى السلام الاميركي Parx Americana بالقوة. وعندما عرض «دليل السياسة الدفاعية» على برنت سكوكروفت مستشار الامن القومي، وجيمس بيكر وزير الخارجية، اعتبراه متشددا وطلبا مراجعته.

وبعد اربع سنوات وفي عام 1996 نشر كاتبان هما ويليام كريستول وروبرت كاجان وينتميان الى المحافظين الجدد، مقالة في دورية «فورين أفيرز» تحت عنوان «نحو سياسة خارجية ـ ريجانية جديدة»، طالبا فيه بسياسة خارجية تتبنى السلام من خلال القوة، وأشارا فيه الى التهديدات التي تهدد السلام الاميركي، وهنا اطل التهديد الذي يمثله نظام صدام حسين.

وبعد عام واحد، وفي عام 1997، التم شمل واضعي دليل السياسة الدفاعية (ولفويتز وسكوتر) مع كاتبي مقالة «نحو سياسة خارجية ريجانية جديدة» ويليام كريستول وروبرت كاجان مع ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وإليون ابرامز وبيتر رودمان وزالماي خليل زاد.. ووضع هذا الشمل اعلان مبادئ «مشروع القرن الاميركي الجديد» الذي كان بمثابة «الاعلان الامبراطوري الاميركي» حيث تضمن فرض السلام الاميركي من خلال القوة العسكرية، وصدرت عن مشروع القرن الاميركي الجديد وثيقة «اعادة بناء دفاعات أميركا» التي تضمنت «دليل السياسة الدفاعية» الذي كان رعاه تشيني ووضع تصورا لضمان التفوق العسكري الاميركي العالمي ومنع صعود أية قوة منافسة، وربط الأمن القومي الاميركي بالمصالح والقيم الاميركية، وفي الوثيقة تم الربط بين العراق وإيران وكوريا الشمالية (دول محور الشر في ما بعد) باعتبارها تمثل تهديدا للأمن القومي الاميركي.

وفي 26 يناير 1998 ارسل رعاة مشروع القرن الاميركي الجديد مذكرة الى الرئيس بيل كلينتون تطالب بالاطاحة بنظام صدام حسين بدعوى انه يهدد القوات الاميركية في المنطقة، وأصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة مثل الدول العربية المعتدلة، وانتاج البترول. وفي 29 مايو 1998 ارسلوا مذكرة مماثلة الى نيوت جينجريش رئيس مجلس النواب، وكان بين الموقعين على المذكرتين، كل من: دونالد رامسفيلد وبول ولفويتز وريتشارد بيرل وإليوت ابرامز وزالماي خليل زاد.

وقد اسفرت تلك الضغوط عن المواجهة بين اميركا والنظام العراقي عام 1998 التي انتهت بالضربة العسكرية «ثعلب الصحراء» في ديسمبر 1998 والتي لم تنجح في اسقاط نظام صدام.

ان التوجه الامبراطوري الاميركي وضمنه تغيير النظام في العراق استراتيجية اميركية مستمرة منذ اوائل التسعينات، ولم تختلف ادارة كلينتون عن ادارة بوش إلا في سرعة الايقاع وعلوه بسبب سيطرة الصقور والمحافظين الجدد وأصحاب مشروع القرن الاميركي الجديد، على ادارة بوش، ثم الهجوم الانتحاري على رموز القوة الاميركية في سبتمبر 2001.

فالتوجه الامبراطوري ممثلا في مبدأ «الانفرادية الاميركية» تكرس خلال حكم كلينتون حيث لم تصدق اميركا على معاهدة حظر انتشار الاسلحة البيولوجية أو بروتوكول كيوتو أو محكمة الجزاء الدولية.

وكانت القوات الاميركية خلال ادارة كلينتون هي التي قادت العمل العسكري في البلقان وهزيمة صربيا، وكانت اميركا ـ كلينتون مثل اميركا ـ بوش تنظر الى الصين كمنافس استراتيجي يتطلب «الاحتواء»، والى روسيا كقوة فاشلة لم تزل تمثل تهديدا ينبغي التعامل معه، والى نظام صدام حسين كنظام يجب تغييره بالضربات العسكرية والعقوبات والحظر الجوي والانقلاب والاغتيال، وان طال الزمن. وهكذا، فانه حتى لو لم تكن ادارة بوش هي الحاكمة ولو لم تحركها احداث 11 سبتمبر، فان التوجه الامبراطوري الاميركي كان سيظل مستمرا وضمنه تغيير نظام صدام حسين، ولو بايقاع ابطأ وأقل صخبا ولمدة أطول.

ان الحرب الاميركية في العراق مرجحة، لأن الهدف منها هو «تغيير النظام» في العراق من أجل اعادة تشكيل الشرق الاوسط. ولا تعني اعادة التشكيل ـ بالضرورة ـ اعادة رسم الخرائط، وانما اعادة تشكيل السياسة والاجتماع في العالم العربي للتوافق مع مصالح وقيم الامبراطورية الاميركية.

وهذا ما يفسر معارضة «أوروبا» التي لا تعارض الحرب كرها في الحرب، فتاريخها ملطخ بالحروب الاستعمارية، أو حبا في صدام حسين بتاريخه الاستبدادي، وانما لإعاقة تسيّد الامبراطورية الاميركية.

بيد ان الحرب، وان تقررت، ليست حتمية، فالحتمي هو تغيير نظام صدام، فمع تغيير النظام يتحقق لأميركا «نصر بلا حرب». أما ان ترجع اميركا عن الحرب من دون تغيير نظام صدام، فان ذلك تكلفته أكبر من تكلفة شن الحرب، فتكلفة الرجوع عن الحرب هي تصدع قيادة اميركا للعالم، أي تراجع الامبراطورية الاميركية.

ويبقى انه ليس أمام العرب إلا الضغط على صدام للتنحي والاغلب انه لن يفعل، وان لم يفعل، فليحاولوا ان تكون الحرب من خلال مجلس الأمن حتى لا تفهم على انها حرب أميركية ضد العرب والمسلمين.

كما ان عليهم ان يكون لهم دور في صياغة عراق ما بعد صدام والحفاظ على وحدة أراضيه وشعبه، ليظل عراقا عربيا، وحبذا لو ربط العرب بين القضية العراقية والمسألة الفلسطينية ولو وفق صيغة «نظام صدام مقابل دولة فلسطينية». ولكن كل ذلك يتطلب ان ينزل العرب الى الحلبة لا ان يتصارعوا خارجها.