سياسة الولايات المتحدة ترسم للعالم خرائط جديدة

TT

فشلت الولايات المتحدة في حشد تأييد عالمي كبير لحربها المعلنة على العراق. وما يزال البَوْن شاسعاً بين حجم التأييد الذي ظفر به الرئيس الأسبق «بوش» الأب في حرب عاصفة الصحراء ضد العراق، والحجم المحدود الذي ظفر به ابنه في الحرب المنتظرة التي يتأكد كل يوم أكثر أنها وشيكة الوقوع، وأن صبح موعدها سيطلع في آخر إحدى ليالي المنتصف الثاني من شهر مارس (آذار) الموالي.

لا تشكل جبهة شن الحرب على العراق بقيادة الولايات المتحدة إلا أقلية في جميع الفضاءات العالمية. فعلى صعيد مجلس الأمن أبرزت مداولاته الأخيرة أن الأقطاب الخمسة الكبار الذين يتمتعون بحق الاعتراض لا يؤيد منهم الولايات المتحدة إلا المملكة المتحدة البريطانية حليفتُها التابعة لها. أما الثلاثة الأقطاب الباقية فرنسا وروسيا والصين فهم متخندقون في جبهة معارضة الحل العسكري.

وفي حلف شمال الأطلسي استُعمِل الفيتو للاعتراض على مشروع قرار أميريكي بشأن حماية تركيا كان يهدف لتوريط الحلف في حرب العراق. وظهر أن نزعة الحرب لا تسود الحلف خلافاً لما كانت تتوقعه الولايات المتحدة.

وعلى ساحات الشوارع العالمية التي حُشدت بمظاهرات ومسيرات معارضة للحرب ظهر أن القواعد الشعبية العالمية ذهبت بعيداً في المعارضة إلى حد التنديد بسياسة العدوان الأميريكي والسخرية من مسعِّري الحرب على العراق، ووصْفِهم بالمجرمين والقتلة. ولم يعرف الشارع العالمي قبل هذه المظاهرات تجمعات شعبية في وفرة وضخامة الزحف البشري الذي التأم صفاً واحداً ضد مغامرة الحرب. وقُدِّر عدد المتظاهرين بـ 26 مليونا توزعوا على 600 مدينة في العالم. وهو رقم قياسي بالغ الدلالة على أن شعوب الكرة الأرضية هي اليوم أكثر وفاء وأشد تعلقاً بالمُثل والقيم الحضارية التي ترفض العنف والحرب واللجوء إلى القوة في حل المشاكل الدولية.

وقد كان المفروض أن يعي البيت الأبيض رسالة شعوب العالم الموجهة إليه، ويثوب إلى الرشد، ويؤثر الحل السلمي الموصل إلى نزع أسلحة التدمير الشامل من قبضة العراق ـ إذا كان يملكها ـ بدلا من تعريض ملايين شعب العراق البرآء إلى القتل والتخريب والتدمير الشامل بسلاح أكثر تطوراً وأشد فتكاً من أسلحة التدمير الشامل الذي يطارَد من أجله العراق بسبب تهمة لم تتأكد بعد. لكن البيت الأبيض شن حرباً على الشارع العالمي عندما قال الرئيس بوش ومستشارته «كوندوليزا رايس» «إن سياسة الولايات المتحدة لا يصنعها الشارع. وإن المظاهرات الشعبية المعارضة للحرب لا أهمية لها». وقد جاء هذا التصريح في أعقاب نزول كبرى المظاهرات الشعبية إلى شوارع وساحات واشنطن ونيويورك ولوس انجلس ولندن ومدريد.

ماذا يعني هذا التصريح الفظ؟ ألا ينعي وفاة الديمقراطية التي يتركب لفظها من كلمتي «ديموس» (الشعب) و«كراطوس» (حكم) أي حكم الشعب. أي الحكم بما تريده الشعوب. وإنه لغريب أن يشار إلى احتقار الشعب من لدن رئيس دولة كانت من سوابق الدول إلى اختيار النظام الديمقراطي نمطاً للحكم، وحفل دستورها بتركيز السيادة في الشعب، واشتهرت بأنها بلد الانتخابات الدائمة.

وحتى في نظام الشيوعية البائد لم يكن أي زعيم في الجبهة الشيوعية يتحدث عن الشعب بالتعبير القدْحي المُهين الذي نطق به الرئيس الأميريكي ومستشارتُه. ولربما رداً على هذا التصريح الطائش قال الرئيس جاك شيراك «إن أوروبا تنصت إلى أصوات الشعوب المعارضة للحرب». وكم هي مسكينة يُرثى لها هذه الديمقراطية التي كفر بها أنبياؤها!

وظهر من مداولات وزراء الخارجية العرب الذين عقدوا اجتماعهم الأسبوع الماضي بالقاهرة أنه لا توجد دولة عربية تؤيد بصراحة خيار الحرب ضد العراق لنزع أسلحة التدمير الشامل منه، بل أجمع المجلس الوزاري العربي على ضرورة إعطاء المفتشين أجلا آخر لإنهاء مهمتهم وتقديم تقريرهم النهائي. وهو خلاف ما كانت تريده الولايات المتحدة وتنتظر على الأقل من بعض حلفائها في دول الخليج الجهر به حتى تصدق مقولة وزير الخارجية الأميريكية «كولين باول» عن حصول بلاده على التحاق دول مجلس التعاون الخليجي بركب الحرب، وعدَّها في حساب التحالف الدولي ضد العراق.

وفي قمة فرنسا ـ إفريقيا التي انعقدت بباريس الأسبوع المنصرم دعمت دول إفريقيا ـ وعددها 54 دولة ـ موقف الرئيس «شيراك» الرافض ـ باسم فرنسا ـ اعتماد الحل العسكري إلى حين استنفاد القرار 1441 أغراضه. ولم تقف في هذه القمة دولة إفريقية واحدة بجانب الولايات المتحدة. وهذا انتصار كبير للرئيس الفرنسي.

وتُوِّجت معارضة الحرب بانضمام البعد الديني إلى البعد السياسي متضافريْن على استبعاد خيار الحرب لفائدة الحل السلمي بالتصريح الذي صدر عن سماحة البابا ونادى فيه بتجنب الحرب، ودعا أتباع الكنيسة الكاثوليكية عبر العالم إلى الصلاة من أجل السلام. كما قام البابا بإرسال مبعوث خاص إلى صدام حسين، وحث «طوني بلير» عند استقباله بالفاتيكان على تغيير موقفه وانضمامه إلى جبهة السلام.

وفي نفس هذا الاتجاه سارت كتلة عدم الانحياز التي انعقدت بماليزيا هذا الأسبوع، والتي التقت فيها 116 دولة تشكل ثلثي دول العالم من بينها 6 دول أعضاء في مجلس الأمن. وستؤكد نفس الموقف أيضاً القمة العربية العادية التي دُعيت إلى الانعقاد بمصر يوم 2 مارس (آذار) الموالي، ولن تشِذَّ عن هذا الإجماع القمة الإسلامية المنتظرة.

وكل ذلك يؤكد أن جبهة الخيار العسكري لا تحشد حول اتجاهها الحربي سنداً كبيراً، بل إن جبهة خيار التأني إلى أن يستنفد القرار 1441 أغراضه تتخندق فيها أغلبية العالم شعوباً ونظماً وحكومات ومؤسسات المجتمع المدني عبر القارات بما فيها أوستراليا التي نزل فيها إلى الشارع حشد كبير من المتظاهرين ضد الحرب في مواجهة ساخنة ضد حكومة أوستراليا التي التحقت بحلف الحرب وتبين أن شعبها يرفض ذلك.

لكن الولايات المتحدة سجلت بعض النجاح على واجهة أخرى عندما استقطبت لتأييدها في كل تجمع دولي عضواً أو أكثر، محدثة بذلك ثغرات وخروقات في نسيج التحالفات والتجمعات الدولية، وفي الأجهزة العالمية في منظمة الأمم المتحدة. ويتعلق الأمر بحلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، ومجلس الأمن، حيث ظهرت بنسب متفاوتة آثار الضغوط التي مارستها الدبلوماسية الأميركية على بعض أعضاء هذه الهيآت لينخرطوا في أطروحاتها. كما انعكست تلك الضغوط على مداولاتها. ولم يكن سهلا داخل الجامعة العربية اتخاذ قرار مساندة الحل السلمي على حساب الحل العسكري الذي يوشك أن يتحرك ويضع العالم أمام الأمر الواقع.

أما الاتحاد الأوروبي فقد عرف لأول مرة في تاريخه اهتزازاً في صفه الموحَّد لحد الآن عندما توزع بين تيار الحرب الذي انغمرت فيه بريطانيا، ونجحت في استمالة اسبانيا وإيطاليا إليه، بل إن الوزير الأول البريطاني «طوني بلير» ـ وهو مكلف بمهمته من الرئيس الأميريكي ـ نجح في استمالة ثماني دول أوروبية إلى موقفه التابع للولايات المتحدة عندما انتزع منها التوقيع على رسالة مؤيدة للاتجاه الأميريكي. وكان من بين الدول الموقعة دول أوروبية شرقية ما تزال لم تستوف شروط انخراطها القانوني في الاتحاد الأوروبي عن طريق استفتاء داخل أقطارها وداخل أقطار الأعضاء الخمسة عشر التي يتألف منها اليوم الاتحاد، الشيء الذي أثار ثائرة الرئيس «جاك شيراك» وأرسل تهديداً مبطَّنا إلى هذه الدول ذكَّرها فيه بأنها ما زالت في قاعة الانتظار للدخول إلى البيت الأوروبي إلى حين ظهور نتائج الاستفتاء على قبولها سنة 2004، أي أن عضويتها لم تكتمل لها الشروط القانونية اللازمة ويمكن لأوروبا الراهنة أن تعيد النظر في قبولها، لأن الاستفتاء الإيجابي هو الذي سيحسم بشأن عضويتها.

في الجامعة العربية التي لا تجري مداولات أعضائها عادة في جو الصراحة والشفافية كان بعض الأعضاء يُسرُّون في أنفسهم هاجس تعذر الموافقة على قرار لا تقنع به أميريكا. ولكن هؤلاء لم يَسَعْهُم إلا القبول الذي لا يرهن حريتهم في الالتحاق بجبهة الحرب عند الضرورة واللزوم. ومواقف بعض أعضاء الجامعة العربية لها دائما ظاهرٌ معلن وباطنٌ مكنون. وربما يكون غير منطقي أن يُجْبَر من انخرطوا في خيار الحرب عملياً ـ بوضع قواعدهم العسكرية مسبقاً تحت تصرف الولايات المتحدة والسماح لقواتها بالحضور المكثف ـ على أن ينخرطوا قولا وفعلا في منظومة خيار الحل السلمي.

ولا يختلف وضع مجلس الأمن عن وضع الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية. فهو الآخر يمر بمرحلة اهتزاز تبتعد به عن عهد تماسكه الذي عرفه منذ نشأته. وها هو يدخل اليوم عهد النكسة والتراجع. لكن هذه الاهتزازات على الأجهزة الأربعة المذكورة تُسعِد الولايات المتحدة، لأنها تضعِف هذه الأجهزة التي تصبح مقصوصة الجناح هشة وضعيفة أمام قوة الولايات المتحدة التي لن تستطيع حكم العالم إلا إذا تمزقت قواه وتفرقت قدراته طرائقَ قِددا.

وها هو العالم يمضي على طريق التفتيت والتشرذم، ولا سبب لهذا التفرق إلا الاختلاف القائم على تقييم سياسة الولايات المتحدة، وضغوط الدبلوماسية الأميركية على الفرقاء للانحياز إليها إما بالتهديد أو بذل التعويضات المادية المغرية أو الوعد بها. ودائما قامت الامبراطوريات العظمى والديكتاتوريات التي سادت العالم على مبدأ فرِّق تسدْ.

والعادة أن إعداد الامبراطوريات للحروب العالمية يسبقه رسم خرائط التحالفات، ويعقب حروبَها تغيير لخرائط الدول وخرائط التحالفات بعد الانتصار.

وما يجري اليوم على الساحة الدولية يؤكد أن حرب العراق ستؤكد لا محالة هذه القاعدة المطردة.