أمريكا تهدد فرنسا

TT

تحذر الولايات المتحدة الامريكية فرنسا من التكتل ضدها ليس فقط بسبب قيادتها المعارضة في داخل اوربا وربما في العالم ضد الحرب التي تدعو اليها واشنطون في العراق، وانما ايضا على خططها الرامية الى اعادة بناء اوربا حتى تصبح قوة موازية لقوة الولايات المتحدة الامريكية فوق المسرح الدولي.

جاء هذا التحذير الامريكي على لسان ريتشارد بيرل المستشار في وزارة الدفاع «البنتاجون» والمكلف برئاسة المجلس الاستشاري للدفاع بقوله ان تحركات باريس في داخل الوحدة الاوربية تقلق واشنطون لأن هدفها منه يتعدى حدود بناء الذات الاوربية الذي لا يختلف معه احد، ولكن ما نختلف معه تماما سعي فرنسا الى اقامة قوة اوربية موازية للولايات المتحدة الامريكية عن طريق تكتل الحلفاء الاوربيين تحت مظلة استراتيجية ترمي الى اعادة الحياة الدولية الى ثنائية القوة فوق المسرح العالمي، ووصف هذا المسلك الفرنسي في داخل اوربا بالتناقض مع الوضع الدولي القائم لان اوربا تتشارك مع امريكا في القوة المنفردة في العالم تحت مظلة حلف شمال الاطلنطي «الناتو» بدليل بقاء هذا الحلف العسكري بعد انتهاء الغرض الاستراتيجي له بسقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وبوجود هذه القوة الامريكية الاوربية المشتركة تنعدم الجدوى من اقامة قوة اوربية منفردة.

لم يكتف ريتشارد بيرل وهو احد صقور اليمين المتطرف في الادارة الامريكية الحالية، بتحذير فرنسا من مغبة ما تفعل بشطر العالم الى قوتين متوازيتين باقامة احداهما في اوربا بهدف التوازن مع القوة القائمة في امريكا، ونعت ذلك بالتمرد الاوربي على امريكا، بصورة تكسر الوحدة الاستراتيجية الغربية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، لحماية اوربا من الخطر الشيوعي الملاصق لها الذي يقوده الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه في حلف وارسو، وانما اخذ يهدد فرنسا بأن المواجهة الاستراتيجية بين حلفاء الامس باقامة قوة مستقلة عن امريكا يتناقض مع انتمائهما لحلف الناتو، وخطورة ذلك تأتي من ازدواجية القوة في المعسكر الاستراتيجي الواحد التي تحول حلفاء الامس الى خصوم اليوم بكل ما يترتب على ذلك من احتمالات المواجهة بينهما، وتطورها الى المجابهة القتالية المدمرة للحياة الدولية المعاصرة، وامريكا حرصا منها على السلام العالمي والاستقرار الدولي ترفض اعتماد السلطة الاوربية بقوتها المستقلة عن حلف الناتو ولن تتردد في القضاء عليها بكل الطرق والوسائل المتاحة لها.

طلب ريتشارد بيرل في نهاية تهديده لفرنسا سماع رأي الرئيس الفرنسي جاك شيراك، واخذ في ذات اللحظة يعمل على توجيه الرأي المطلوب منه، بإعلانه انه لا يعمل على اعادة بناء الوحدة الاوربية عسكريا، ولن يتخذ خطوات تجعل من اوربا خصما للولايات المتحدة الامريكية، ووصل التهديد لفرنسا الى ذروته بقوله اذا لم يعلن جاك شيراك بأن فرنسا لا تسعى الى اقامة قوة اوربية منفردة عن الناتو فإن واشنطون تفكر بجدية في اتباع طرق منفصلة عن الناتو تستهدف القضاء على نمو القوة الاوربية المستقلة حتى تمنع قيام قوة موازية لها فوق المسرح الدولي.

قبل ان نبحث عن اسباب هذا الموقف الامريكي ضد اوربا وتهديدها وما ترتب على ذلك من ردود الفعل الفرنسية والاوربية، نعود بالذاكرة الى عدة سنوات ماضية سبقت العدوان على امريكا في نيويورك وواشنطون يوم 11 سبتمبر عام 2001، لنثبت التوجه الاوربي في اقامة قوة اوربية مستقلة تمت مناقشتها في قمة الوحدة الاوربية التي عقدت بمدينة نيس الفرنسية، وتم الاتفاق على اهمية القوة الاوربية المستقلة بعد ان سيطرت امريكا على حلف الناتو وجعلته لا يطيع اوامر غيرها من الدول الاعضاء به، سارعت امريكا قبل صدور قرار بانشاء قوة اوربية مستقلة وطالبت بالغاء هذا التوجه الاوربي لتناقض قيامها مع حلف الناتو، غير ان قمة الوحدة الاوربية في نيس لم تلغ وانما اجلت قيام هذه القوة الاوربية المستقلة، وهذا يجعل بحثها اليوم يرتكز على السابقة التاريخية في قمة نيس بعد ان زاد الالحاح في طلب هذه القوة الاوربية المستقلة نتيجة للتطاول الامريكي على اوربا الى حد التدخل في الشؤون الداخلية الذي يقوم الدليل الصارخ عليه بطلب البيت الابيض اخراج مستشار المانيا جيهارد شرودر من السلطة في برلين، وترتب على هذا الطلب غير المشروع من البيت الابيض ريبة في امريكا لان ما تطالب به المانيا اليوم لا يوجد ما يمنع تكراره في الغد بالنسبة للعديد من الدول الاوربية الأخرى المتمتعة بالحياة الديمقراطية فتأكد لها جميعا ان مواجهة الديكتاتورية الامريكية في العلاقات الدولية تتطلب وجود قوة اوربية تحافظ على استقلالها وتمنع تدخل واشنطون في ما لا يعنيها من شؤون غيرها، واعلن من باريس بأن دول الوحدة الاوربية ماضية في تكوين قوة اوربية مستقلة حتى ولو كرهت امريكا.

تطاول ريتشارد بيرل على فرنسا الذي يتضمن تطاولا على غيرها من دول الوحدة الاوربية لم يأت من لدنه وانما جاء تنفيذا لأوامر صادرة اليه من رؤسائه في البنتاجون الذين بدورهم تلقوا هذه الأوامر من البيت الابيض الذي لا يتصور حقا لاحد من الدول على الارض منازعته في حكم العالم، فاستشاط غضبا من المسلك الاوربي بقيادة فرنسا الذي يستهدف العودة الى ثنائية القوة على الارض التي تحقق التوازن الدولي، بعد ان ثبت الفساد الاستراتيجي القائم على القوة المنفردة التي جعلت السيطرة تحل محل التوازن في العلاقات الدولية ونتج عن ذلك الكثير من الموبقات السياسية والاقتصادية، في السلم بالتدخل لفرض اصول ومناهج الحكم بالدول المختلفة على الطريقة الامريكية، وفي الحرب بالخروج اليها مرغمين انصياعا للارادة الامريكية ووصل الحال الى حد قول الرئيس الامريكي جورج بوش «من ليس معنا فهو عدو لنا».

بدأت امريكا تحارب فرنسا بحض مواطنيها على الامتناع عن شراء البضائع الفرنسية بالاسواق الامريكية، في الوقت الذي اقامت فيه الدنيا ولم تقعدها عندما طالب العرب بمقاطعة البضائع الامريكية بالاسواق العربية فانطبق عليها قول الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي قبل الف عام:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك اذا فعلت عظيم

لا يخفى على احد محاربة امريكا لدول الوحدة الاوربية بدفع العملة الموحدة لها «اليورو» الى الارتفاع حتى اصبحت قيمة اليورو الواحد تصل الى دولار امريكي وعشرة سنتات والهدف من هذه السياسة المالية في سوق العملات التأثير على صادرات دول الوحدة الاوربية من السلع والخدمات. ويقال في الاوساط المالية الامريكية بأن سياسات رفع قيمة اليورو ستتواصل حتى تركع دول الوحدة الاوربية للارادة الامريكية الرافضة الاخذ باستراتيجية ثنائية القوة العالمية التي تتحقق بقيام القوة الاوربية الموازية لقوة الولايات المتحدة الامريكية لأن واشنطون لا تقبل العودة الى استراتيجية توازن القوى التي تخلصت منها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

لا يزال قصر الاليزيه في باريس صامتا مترفعا عن المهاترات الامريكية ولكنه يواصل مسيرته في بناء قوة اوربية مستقلة موازية لقوة امريكا لأنه يجد في العودة الى استراتيجية القوة الثنائية الخلاص من التسلط الامريكي على العالم بالتصدي الاوربي له لابطال نتائج الحرب التي هدد بها ريتشارد بيرل واطلت على اوربا في ثوبها الاقتصادي.