الحرب العراقية في الرهان الاستراتيجي الدولي الجديد

TT

مع اقتراب ساعة الحسم على الجبهة العراقية، تطلع علينا الصحافة العربية كل يوم بسيل عرم من التحليلات ومقالات الرأي التي تنزع إلى رصد مؤشرات واتجاهات الوضع الراهن، من حيث رهاناته الاستراتيجية التي تبدو عميقة، في مستوى تركيبة النظام الدولي والعلاقة بين قواه الأساسية.

ويذهب الكثيرون ـ ومن بينهم بعض كبار الساسة والمفكرين ـ إلى أن التناقض البارز، حاليا، بين الأطراف المحورية في مجلس الأمن، إزاء نمط ادارة الملف العراقي، يشير إلى مرور النظام الدولي من مرحلة الهيمنة الأحادية الأمريكية، الى نمط جديد من القطبية المتعددة ترمز إليها المواقف الأوروبية (المحور الفرنسي ـ الألماني) والروسية ـ الصينية.

ويذهب البعض إلى أن الموضوع العراقي ليس سوى ساحة اختبار لهذه المواجهة الاستراتيجية الجديدة التي يشكل رهان السيطرة على منابع النفط معركتها الأولى الحاسمة.

ولا شك في ان في تصريحات وتلميحات الساسة والمسؤولين السياسيين من مختلف الأطراف ما يعزز هذه الصورة الرائجة في خطابنا الإعلامي، التي يبدو ان بعض صانعي القرار يعولون عليها في رسم الموقف القومي المشترك المطلوب.

وقبل استكناه ما نعتبره مؤشرات التحول الاستراتيجي الراهن، لا بد، في رأينا، من التذكير بحقائق ثلاث أساسية:

أولا: لا يتعلق الخلاف القائم حاليا بين القوى الدولية الرئيسية بخصوص الملف العراقي بالغاية النهائية والهدف الأقصى، المتمثل بالقضاء على النظام السياسي الحاكم، واحداث تغييرات جوهرية في الوضع الداخلي في العراق، فعلى الرغم من اختلاف لهجة الخطاب بين المسؤولين الأمريكيين ونظرائهم الأوروبيين والروس، إلا أنه بات من الواضح ان قرار التخلص من الرئيس صدام يحظى بإجماع كامل، وهو شرط ضروري لمطلب تفعيل دور العراق الإقليمي في ظل التفاعلات الدولية الراهنة. ولا يمثل المشروع الأوروبي البديل عن قرار الحرب الفورية مقاربة مغايرة في الجوهر، باعتباره يسعى لتمرير التغيير بالوسائل السلمية وعن طريق وصاية هيئة الأمم المتحدة التي تمت لفرض احتلال عسكري (لتعزيز دور فرق التفتيش وحمايتها) وتصل لحد الإشراف على انفراج ديمقراطي حقيقي يؤول الى قلب نظام الحكم.

ثانيا: لا تشكل الأطراف المناوئة للحرب كتلة منسجمة من حيث التوجه والمصالح، بل تضم أطرافاً متمايزة تتحدد مواقفها في المسألة العراقية باعتبارات الوضع الداخلي في الغالب. فذاك شأن روسيا مثلا التي تحرص على علاقاتها الدافئة مع الولايات المتحدة بالنظر لمقتضيات المصلحة الاقتصادية، بيد ان هذه المقتضيات ذاتها هي التي تحركها في موقفها الحالي المتمثل في الاستفادة القصوى من بقية نفوذها الاستراتيجي للحصول على مغانم الحرب النفطية الحاسمة. ولا يختلف الموقف الفرنسي عن هذا التصور، رغم اتقان الدبلوماسية الفرنسية لغة المبادئ والمثل.

ثالثا: يعي الجميع ان حركة الاحتجاج الشعبي والرسمي على الحرب لن تحول دون اندلاعها، حتى ولو فقدت التأييد في الساحة الأمريكية نفسها. ويتفق كل الساسة والمحللين الأوروبيين حول هذه الحقيقة، ولا يخفون عجزهم عن كبح جماح الماكينة العسكرية الأمريكية التي دخلت فعلا مرحلة الإعداد الأولي. ولن يشكل عائق الشرعية قيداً أساسياً للاستراتيجية الحربية الأمريكية، حتى ولو كانت ادارة الرئيس بوش تفضل تمرير قرار الحرب من داخل المظلة الأممية.

بعد التذكير بهذه الحقائق الثلاث، يمكننا طرح سؤال محوري نعتقد انه يحدد اطار الرهان الاستراتيجي الدولي في المستقبل المنظور، والسؤال المطروح هو: هل يعكس التناقض الأمريكي ـ الأوروبي في المسألة العراقية نهاية الكتلة الغربية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، واتخذت صيغاً مؤسسية فاعلة، ومكنت من تحقيق الانتصار المبين على المعسكر الشرقي في الحرب الباردة؟ وما هي انعكاسات ونتائج هذا التفكك المفترض على العلاقات الدولية؟.

قد يكون من السابق للأوان الإجابة عن هذا الإشكال المحوري، فلا تزال تفاعلات الحدث العراقي تتسارع بوتيرة مثيرة تتمنع على المتابعة الدقيقة، كما ان المواقف تتضارب وتتباين من لحظة لأخرى، وستكون الحرب حاسمة في تحديد طبيعة هذه المتغيرات، بيد ان بعض العناصر تستحق التسجيل في رأينا، ومنها على الخصوص:

ـ الأزمة العميقة التي تمر بها المؤسسات الدولية والإقليمية الفاعلة التي تحدد وتصوغ مواقف وسياسات القوى العالمية الكبرى في الرهان الاستراتيجي، بدءاً بمجلس الأمن الدولي وانتهاء بالحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي ومجموعة الثمانية. فلم تتمكن هذه الدوائر المتداخلة من بلورة موقف منسجم من اخطر أزمة يواجهها العالم بعد الحرب الباردة، وبدا من الواضح ان الاجماع الهش الذي حظي به قرار مجلس الأمن رقم 1441 يترجم الحد الأقصى من التوافق الذي لا يصل لحد إعلان الحرب، ولو كان الخيار الحربي هو أفق القرار المذكور.

فالاتحاد الأوروبي الذي حقق بنجاح مشروع الاندماج الاقتصادي بين أعضائه، عجز عجزاً فادحاً عن رسم سياسة خارجية مشتركة، وأظهرت الأزمة العراقية أن المعايير القومية المتمايزة لا تزال هي الحاسمة في تحديد التوجهات الدبلوماسية للدول وفق منطقين متمايزين يعبر عن أحدهما المسلك الفرنسي ـ الألماني (بناء كتلة أوروبية فاعلة متميزة عن الهيمنة الأمريكية)، ويعبر عن ثانيهما المسلك البريطاني ـ الإيطالي (دعم واستمرارية التحالف الأمريكي ـ الأوروبي في الشأن العسكري ـ الاستراتيجي)، والحلف الأطلسي الذي كان فاعلاً متحداً خلال الأزمات البلقانية، مسّه الوهن ذاته.

وقد غدونا نقرأ في كبريات الصحف الأمريكية، آراء جريئة تذهب إلى حد إعادة هيكلة النظام المؤسسي الدولي بحسب المتغيرات الجديدة (كتعويض القوى الآفلة مثل فرنسا وروسيا بالقوى الإقليمية الصاعدة مثل الهند والبرازيل، وحصر حق الفيتو بالولايات المتحدة).

ـ تتأرجح الإدارة الأمريكية ومؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة بين اتجاهين في التعامل مع الأزمات الدولية (ونموذجها العراق حاليا)، هما من جهة، تفعيل الأطر الشرعية التقليدية للتدخل العسكري (هيئة الأمم المتحدة)، ومن جهة أخرى، الاكتفاء بالشرعية «الأخلاقية المبدئية» التي لها الأولوية على الضوابط القانونية، أي صياغة المواقف بحسب النوازع والغايات الأخلاقية من منطلق مسؤولية الولايات المتحدة في حفظ وفرض مثل الحرية والعدل والسلم، حتى لو فشلت في تمرير مواقفها عبر الأطر الشرعية الدولية. ومن الواضح ان هذا الاتجاه ذا التبعات الخطيرة، هو المهيمن على أركان الإدارة الأمريكية الحالية.

ـ تبرز حركة الاحتجاج الواسعة التي شهدها الشارع الغربي ضد الحرب في الأسابيع الأخيرة حيوية عالية لحركية المجتمع المدني العالمي الذي وحدته ديناميكية العولمة في ابعادها الاتصالية والاقتصادية، وأصبحت من هذا المنظور تشكل عنصراً فاعلاً في الرهان الاستراتيجي في مرحلة تقلص نفوذ وحضور الدول القومية. ولا شك ان لهذا التحول أثره في مواقف الدول وفي رسم سياساتها الخارجية التي لم تعد تحدد بمحض عامل «المصلحة الوطنية العليا» حسب العبارة التقليدية المألوفة.