لحظة مضيئة بين الصخب والضجة: الأديب الرئيس يودع الرئاسة

TT

بين الضجيج الأميركي ـ البريطاني الصاخب في اتجاه الحرب المقررة من حيث المبدأ على العراق والضجة الفرنسية ـ الالمانية ـ الروسية ـ الصينية ـ البلجيكية في اتجاه التخفيف من غلواء الذين حشدوا القوات وبدأوا بعد ذلك البحث عن القرائن التي تؤكد ضرورات الحرب على المنطقة بدءاً ببلاد الرافدين وبحيث لا تكون هذه الحرب عدواناً اشبه بذلك العدوان الذي استهدف مصر عبر الناصر عام 1956 مع اختلاف الادوار.

بين هذا الضجيج وتلك الضجة، تستوقف الكاتب المهموم والمهتم ـ مثل حالي ـ بهذه الأقدار بالغة السوء، التي تصيب الأمة وبحيث تجعلها الصواعق المتلاحقة ما ان تحاول النهوض من الكبوة حتى تجد نفسها صريعة كبوة أشد إيلاماً وتعقيداً، بعض اللحظات المضيئة يسجلها اشخاص كانوا فاعلين في صناعة القرار كل في بلده وفي النظام الذي ترأسه او في السلطة التي كانت له عندما شغل موقعاً حساساً من المواقع في الدولة.

من هذه اللحظات المضيئةوالتي تكتسب صفة التميز وعلى ارقى ما يكون عليه هذا التميز وداع الرئيس فاكلاف هافل لرئاسة دولة تشيكيا، او تشيكوسلوفاكيا على نحو ما هو محفور في ذاكرة معاصري العقدين الأخيرين من القرن العشرين.

إن ما فعله الرئيس التشيكي لم يسبقه رئيس من قبل اليه على النحو الذي ودع فيه مكان القمة في النظام الى السفح مواطناً عادياً. فلقد حدث من قبل ان ابتعد سنجور طوعاً عن رئاسة السنغال مسجلاً بذلك القليل من الزهد في المنصب إلاَّ ان الرجل لم يرفق الابتعاد، وعلى رغم انه شاعر ويملك القدرة على ابتكار مفردات ادبية، بالاعتذار الذي تضمنته رسالة وداع فاكلاف هافل لرئاسة البلاد التي بثتها وسائل الإعلام في تشيكيا مساء يوم الاحد الثاني من فبراير 2003 وقرأها الرئيس من دون ان يكون هنالك حراس حوله وعيون من بعيد ترمقه كي يقرأ رسالة الوداع كما هي مكتوبة. وجاءت رسالة الوداع تعكس قدرة الرجل ككاتب يستعمل في الرسالة كلمات تجعل السامع يحترمه ويقدِّر فيه تواضعه، وتجعل السامع ايضاً يعقد مقارنة بين جاره تشاوشيسكو وكيف انتهى بعدما كان احتكر وتجبر وتعالى وترك اجهزة الأمن تعيث فساداً وإفساداً وترتكب من القهر اشده، كما انه ترك العائلة ترتكب ما لا يجوز ارتكابه وتمنع عن الآخرين ما تجيزه لنفسها وتسخِّر الآلة الإعلامية لتمجيد الرئيس الذي استبد وكابر ثم هوى في لحظة عقاب له على ما فعل. وهذه المقارنة تشكل ما يجوز اعتباره امثولة لكثيرين في المجتمع الدولي وفي مجتمعات العالم الثالث حيث تأليه اُولي الأمر بات من المقومات.

في رسالة الوداع قال الرئيس التشيكي هافل: «انا اودعكم بصفتي رئيساً لكم إلاَّ انني باق معكم بصفتي مواطناً آخر شاكراً لكم دعمكم وطالباً الصفح عن الاخطاء التي ارتكبتها خلال تلك الفترة التي سبقت النظام الشيوعي عام 1989 حيث كنت شاهداً ومشاركاً في العديد من الاحداث البارزة داخلياً وفي اوروبا والعالم. وإلى كل من تسببتُ بخيبة أمله في اي شكل من الأشكال وإلى اولئك الذين اعتبروني بغيضاً اتقدم باعتذاري الصادق كما أثق بأنكم ستصفحون عني...».

بهذه الكلمات المكتوبة بقلم من جاء الى حكم البلاد من موقع الاديب والروائي، حفر فاكلاف هافل لنفسه موقعاً في قلوب ابناء شعبه وسجَّل نقطة بالغة الاهمية وهي الاعتراف بالخطأ وطلب الاعتذار. ونقول ان هذه النقطة مهمة بل وبالغة الأهمية على اساس ان الحكام نادراً ما يعترفون بالخطأ وانهم عموماً ينأون عن استعمال كلمة الاعتذار وكأنما هم لا يخطئون، مع ان الحكام هم اكثر البشر ارتكاباً للأخطاء، وذلك لأن مقادير السلطة واتخاذ القرار في اياديهم. وبطبيعة الحال فإن ارتكاب الاخطاء يكون كثيراً ومن دون تمييز بين من هم ينتمون الى العالم الثالث امثال الرئيس صدام حسين او الى العالم الأول امثال الرئيس بوش الإبن ومن قبله الرئيس بوش الأب وامثال الرئيس طوني بلير في العام 2003 ومن قبله في العام 1991 الرئيسة مارغريت تاتشر. وإلى ذلك فإن ابتعاد فاكلاف هافل عن الحكم طوعاً بعد 13 عاماً رئيساً من اصلها خمس سنوات خضع خلالها لأدق العمليات الجراحية الخطيرة، ومن دون ان يشغل باله وبال العالم بمنفى يقضي فيه ما تبقَّى له من العمر، يؤكد أن الزهد بالمنصب هو أحياناً بأهمية إشغال المنصب، وأن سمعة من يكون شاغلاً منصب الرئاسة ثم يبتعد طوعاً عن المنصب تكون احياناً اهم من سمعته وهو في سدة الرئاسة. وهذه على سبيل المثال لا الحصر السمعة التي للرئيس الجزائري اليمين زروال الذي اختصر مدة رئاسته ليخلفه وضمن صيغة راقية من التوافق الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. ومن قبل الرئيس زروال الذي اعتبر بأنه ادى واجبه وابتعد تماماً عن دائرة الضوء، هنالك الرئيس السوداني الفريق عبد الرحمن سوار الذهب الذي شغل لمدة عام منصب الرئيس في السودان خلال مرحلة انتقالية بين حكم الرئيس جعفر نميري وإسقاط هذا الحكم، وفي اليوم الاخير من العام الانتقالي ترك سوار الذهب الرئاسة مع انه كان قادراً، وبالذات لأنه من جنرالات المؤسسة العسكرية، ان يبقى في الحكم بمثل ما بقي من كان قبله، اي نميري، وبمثل باقين كثيرين في الحكم بفعل ثورة او انقلاب عسكري. وها هو الآن سوار الذهب يعمل في الحقل العام ضمن اهتمامات اسلامية مجبور الخاطر لا خلاف على انه كرس امثولة ما احوج السودان وغير السودان الى الاحتذاء بها وخلاصتها ان الحكم ليس حالة ابدية وأن الابتعاد عنه طوعاً يشيع الطمأنينة في نفوس الرأي العام ويعطي الحكم نكهة مستحبة. وعلى سبيل المثال لا الحصر هنالك السمعة التي للرئيس السابق نلسون مانديلا الذي كان نضاله وتراثه وسلوكه واحترامه للعبة الديمقراطية، فضلاً عن خصال طيبة اخرى كثيرة في شخصه، تتيح له البقاء في الحكم الى ان يتوقف القلب عن الخفقان، لكنه آثر توديع سدة الرئاسة عام 1999 بعدما بلغ الثمانين من العمر وبعدما كان قبل ذلك بسنتين تزوج من ماشيل ارملة صديقه رئيس زيمبابوي السابق. وفي سنوات الابتعاد الطوعي عن الحكم المستمرة يزداد مانديلا تألقاً ويكتسب زهده رونقاً ويتباهى شعب جنوب افريقيا بالرجل الذي حكم متأخراً، وغادر مبكراً ليمارس دور الحكيم بدل الحاكم، ناثراً التنبيهات والنصائح حيث يجب نثرها.. وبالذات في اتجاه الأكثر اندفاعاً لاعتماد الحلول الحربية والهيمنة والاستئثار بالقرار الدولي اسلوباً، في زمن بات الأمل معقوداً على ان يكون التشاور والتشارك والتسامح جوامع مشتركة للذين يمسكون بمقاليد السلطة في دولهم، وبحيث يأخذ هؤلاء في الاعتبار أن الله سبحانه وتعالى اراد أن يكون العالم خمس قارات وأمماً وشعوباً تتعايش وتتعارف وتتعاون ويكون الأحسن عند الخالق هو الأتقى بالمعاني المتعددة للتقوى. اما بالنسبة الى الحكام فيكون الواحد منهم من النسيج نفسه الذي بدا فيه الرئيس التشيكي الذي غادر، كما غادر من قبل مانديلا وسنغور وسوار الذهب واليمين زروال، شاكراً شعباً منحه ثقته معتذراً بصدق من اخطاء قد يكون ارتكبها في فترة رئاسته مدوناً في كتاب الحكام لحظة مضيئة تستحق التقدير عن عالم الحكم... الذي ما دام لغيره لكي يدوم له على نحو التعبير العربي الصادق.