فيدرالية عراقية غير مغشوشة (2 من 2)

TT

كثيرون بين الأكراد العراقيين يؤكدون انهم ، في غالبيتهم، لا يطلبون الانفصال، على الأقل في المدى المنظور. ويستندون في ذلك ، اساسا، إلى ان قيام دولة كردية صغيرة في شمال العراق، على غير هوى عرب العراق ودول الجوار، يعني العزلة القاتلة. الا ان طرح شعار الفيدرالية بالطريقة التي تم بها، من هلامية وعشوائية وعدم صراحة كاملة، خصوصا في ما يتعلق بحدود كلٍ من الكيانين اللذين سيشكلان العراق الفيدرالي، وما يرافق ذلك من تشكيل وزارات وبرلمان ومؤسسات، لم تضع في اعتبارها انها جزء من كيان اكبر، دفع بالآخرين الى اعتباره تأسيساً لدولة وليس لإقليم في ظروف العراق الحالية، وحمل الفيدرالية طعم التعصب القومي وهي منه براء. فهي ليست سوى اطار اداري سياسي يمكن ان يصاغ بما يناسب الدولة، أية دولة، ومصالح جماهيرها. وفي وضع العراق المتميز، إثنيا وفكريا واقتصاديا وجغرافيا، لا بد لنا من إثارة عدد من التساؤلات، منها: من الذي يحدد ويرسم حدود كل اقليم؟ من الذي يحق له قيادة كل اقليم، وكيف ولماذا؟ لماذا جعل الدولة الفيدرالية كيانين لا عشرة كيانات، مثلا؟ من يقرر ان يكون سكان الإقليمين، خصوصا من القوميتين والطائفتين الاكبر، أقليات في الكيان الاصغر أم الاكبر؟

اغلب الظن ان ما لقيه الأكراد العراقيون من ظلم وعدوان طيلة العقود الماضية دفع ببعضهم إلى استغلال ضعف النظام وضعف المعارضة العربية العراقية، في الظروف التي اعقبت حرب تحرير الكويت، وانتزاع مواقع متقدمة تصلح اوراقا للمساومة لضمان عدم العودة الى الوضع المأساوي القديم.

ويجادل العراقيون الآخرون، بأن عرب العراق وباقي الاقليات، لم يكونوا اقل تعرضاً وتحملاً للظلم والعدوان. بل ان بعضهم تعرض لأقسى مما تعرض له الأكراد. ويعتبرون كذلك ان نظام الحكم الحالي حالة استثنائية لا تستوجب كل هذا التطرف في طلب الضمانات. وكان المؤمل ان تصبح الشراكة في الظلم كفيلة بضمان الشراكة في طلب العدل. وفي جميع الظروف لا يمكن حذف الثقل الكردي من القضية العراقية، ولا يمكن حذف الثقل العربي من القضية الكردية.

ويستمر عرب العراق، خصوصاً أولئك الذين لم ينضموا الى اطراف المعارضة المعروفة في الخارج، والمدعومة من قوى اقليمية ودولية، في المجادلة، فيقولون ان الفيدرالية التي تبنتها اطراف معينة من تلك المعارضة، تفترض قيام وزارات وبرلمان في كلا طرفي المعادلة. فلماذا لم يسمح الأكراد لعربي عراقي بالمشاركة في وزارات وبرلمان كردستان العراق، ترشيحا او انتخابا، حتى لو كان من حلفائهم، في حين يطالبون بمشاركة فعالة في السلطة المركزية القادمة.

من هنا يعتبر هؤلاء المجادلون تلك الفيدرالية المطروحة، نوعاً من التسلط العنصري، او كأن الأكراد يلوون ذراع العراق العربي، في ظل ظروف اقليمية ودولية غير مناسبة.

وهذا في نظرهم هو ما وضع العراقيل في وجه الجهود الهادفة الى بلوغ مرحلة التفاهم الوطني العام.

البديل

واستمراراً في هذه المحاورة أقترح، بتواضع، صيغة معدلة من الفيدرالية لعلها تؤدي الى الهدف نفسه بطريقة ابسط وأكثر قدرة على طمأنة المتخوفين، خصوصا من العرب السنة ودول الجوار.

الفيدرالية المقترحة تدعو الى جعل الدولة العراقية دولة لا مركزية، تتكون من مناطق او اقاليم واضحة الحدود والمعالم، يتميز كل منها بخصوصية اثنية ان دينية او طائفية او اقتصادية واحدة أو متقاربة. وليس من الصعب الاتفاق على فرز تسعة اقاليم يتمتع كل منها بادارة ذاتية مستقلة عن الاجهزة والمؤسسات المركزية، دون ان تتقاطع معها في الاختصاص.

ويمكن اجمالها بما يلي:

إقليم كردستان: أربيل، السليمانية، دهوك واجزاء من الموصل وكركوك. الاقليم الشرقي: كركوك وديالى. اقليم الموصل: ويضم كذلك تكريت وسامراء اقليم بغداد.

اقليم الأنبار: الرمادي، عنه، وصولاً الى الفلوجة. اقليم العتبات المقدسة: كربلاء والنجف الأشرف. الاقليم الوسط: الديوانية، الحلة، الكوت. الاقليم الجنوبي: الناصرية، العمارة، السماوة. اقليم البصرة.

ثم ينشأ مجلس مندوبين يتم انتخاب أعضائه مباشرة من قبل المواطنين، بمعدل مندوبين أو ثلاثة، وحسب كثافة الاقليم السكانية او تنوعها. ويكون هو مجلس الدولة الأعلى الذي يتولى اغلب صلاحيات رئيس الجمهورية. واقترح ان تحدد نسب المندوبين وفق التالي:

اقليم كردستادن: اربعة مندوبين احدهم آشوري او كلداني

الاقليم الشرقي: ثلاثة مندوبين، كردي، عربي شيعي، وتركماني

اقليم الموصل: ثلاثة مندوبين (سنة)

اقليم بغداد: اربعة مندوبين سني، شيعي، كردي، مسيحي. اقليم الانبار: مندوبان (سنيان). اقليم العتبات المقدسة: مندوبان (شيعيان). الاقليم الأوسط: مندوبان (شيعيان). الاقليم الجنوبي: مندوبان (شيعيان).

اقليم البصرة: مندوبان (سني، شيعي)

ويلاحظ ان النسب المقترحة تحقق التوازن بين الطوائف المختلفة

السنة: 7 مندوبين. الشيعة: 9 مندوبين. الأكردا 5 مندوبين. الآشوريون: مندوب. التركمان: مندوب. المسيحيون: مندوب.

ثم ينشأ مجلس للنواب يتم انتخاب أعضائه بنسبة خمسة عشر نائباً لكل مليون مواطن، بعد ان يكون قد أجري احصاء سكاني علمي عادل وصحيح وباشراف جهات دولية مختصة.

ويحصر حق الانتخاب بالمواطن البالغ المقيم إقامة دائمة في دائرته الانتخابية.

ثم تقسم موارد الدولة العراقية بموجب نظام يقرره مجلس المندوبين بين السلطة المركزية وادارات الاقاليم.

ويلحق ذلك كله بناء المؤسسات الدستورية المدنية وتنزع أسلحة المليشيات والألوية ويعود العسكر الى ثكناتهم. وحين يكون صندوق الانتخاب هو الحاكم الحقيقي فلا مشكلة في من يكون رئيسا للعراق. فقد يكون من اية قرية او من اية طائفة او قومية او دين، ما دام من حوله كل تلك الاحزمة والسياجات المحكمة.

واخيرا أعلم بأن هذا المقترح لن يرضي الجميع، لكنه مجرد فكرة قابلة للمناقشة هدفها اعادة الحلم من سمائه البعيدة الى الأرض السياسية الواقعية ، من اجل ازالة مخاوف الجميع من الجميع، بشجاعة وصراحة، ولاسقاط سلاح التخوين والتشكيك واحلال روح التعاون الواقعي الصادق لانجاز البديل المعقول، وانهاء المعادلة الدامية وسد الطريق نهائيا امام احتمالات تفرد طائفة او قومية او قبيلة او مدينة بحكم العراق القادم، ولتفويت الفرصة تماما امام مغامرين او حمقى جدد يغلفون ديكتاتورياتهم بثياب القومية او الوطنية او الديمقراطية. ثم بعد ذلك كله تبديد مخاوف القوى الاقليمية والدولية من عراق الغد.

حين أكملت كتابة هذه المقالة سألت نفسي: هل أحلم بفردوس مفقود لا يوجد الا في أحلام اليقظة، أم هو حلم قريب المنال يسهل تحقيقه؟ وأجبت: انه حاجة أساسية ومطلب ساخن ومشروع لتوحيد العراقيين واصلاح ما أفسده الآباء، بالامكان تأسيسه على الانقاض المبعثرة من العراق التائه الشريد، اذا خلصت نيات صناع القرار، محليين ودوليين، وأصحاب الدكاكين وأحزاب اليافطات الديمقراطية الفاقعة. وهو بالتالي ليس على الله ببعيد.

* كاتب واعلامي عراقي