من شيكاغو إلى بغداد

TT

ان كنت تريد ان تتفرج على العدالة الأميركية، فخذ إجازة مؤقتة مما يجري في العراق وحوله، واذهب الى فيلم «شيكاغو» حيث يختلف الايقاع، وتتبدل القصة وتسمع موسيقى اخرى لكن الجوهر يظل واحداً، ففي العدالة الاميركية امتلك القدرة على الدفع أو القتل، وافعل ما شئت، فمصالحك مقدسة وعادلة مهما كانت ضد العدالة، المهم ان تجد جيشاً يحقق اهدافك غير العادلة او تستأجر احد المحامين ليفصل لك البراءة على مقاسك، وعلى حجم الشيك الذي دفعته، والى الجحيم بالقانون والعود والرأي العام.

في فيلم «شيكاغو» المحامي بيلي فلنت يقود العدالة من مكتبه وليس من «البيت الأبيض» فهو بوش السجينات القاتلات الذي يفصل لكل منهن السيناريو الذي يناسبها، ومع ان كثيرات منهن محكومات بالإعدام، فإن ذلك الحكم لا ينفذ الا في سجينة غريبة من دول البلقان نرى الحبل حول رقبتها ولا نعرف حرفاً واحداً عن جريمتها، وقد شنقت لانه لم يكن معها ما تدفعه لمحامي الشيطان الذي قام بدوره ريتشارد كير.

وحامي العدالة الأميركية لا يخفي اهدافه، فكثيراً ما شرحها بالتفصيل الممل وهو يرقص مع روكسي وفيلما البطلتين الاساسيتين للفيلم، فالمجتمع يريد عدالة سينمائية مثيرة ولا وقت لديه للتدقيق في الأدلة والملابسات، لذا يقود المحامون مع رجال الاعلام المشاهد بالطريقة التي تناسبهم، وليس من الضروري ان تناسب الضحايا او الحقيقة التي تصبح اول ضحية.

لقد قتلت روكسي رجلاً خدعها واوهمها بقدرته على تحويلها الى نجمة، ثم تنصل من وعوده قبل ان تجف متعته فأردته برصاصتين، واعترفت بالجريمة مؤقتاً الى ان اكتشفت داخل السجن سيرة المحامي اللامع الذي، يفك عن حبل المشنقة، وكل شيء بثمنه ليس مع المحامي، فحسب بل مع السجانة والزميلات القاتلات، ورجال الصحافة، وبعضهم لا يطرح الا الاسئلة التي تناسب سيناريو المحامي الالمعي في اخفاء اثار الجرائم.

وشيكاغو، بالأصل مسرحية موسيقية، فلما تحولت الى فيلم كان لا بد من الحفاظ على المستويين الرقصة وموسيقاها والحدث، لذا نرى الشاشة غالباً مقسومة إلى نصفين، وتعرض بالتزامن ما يجري مرة باسلوبه الواقعي واخرى حسب الاصل المموسق والراقص والبعض قد لا يعجبه هذا الاسلوب ويفضلها على غرار «سيدتي الجميلة» حيث تتقاطع المسرحية الموسيقية والفيلم دون ان تندمج المشاهد على الشاشة في ذات اللحظة.

لقد نجح محامي الشيطان في الافراج عن روكسي وفيلما وتصالحتا بعد خلافهما الطويل داخل السجن وشكلتا فرقة واحدة ناجحة بفضل فهم القانونيين لاسلوب العدالة الاميركية فتحويل القاتل الى بريء ليس حكاية سينمائية فحسب في اميركا بل قصة واقعية تجري خارج الشاشة بين الناس المشاهير والعاديين ولعل قصة «جي اوسبمسون» ما تزال ماثلة في الاذهان حيث قتل وأدين ثم خرج بريئاً باسلوب لا تقدر عليه غير تلك العدالة العجيبة.

ولعل المحامي بيلي فلنت هو خلاصة «الحذق الأميركي» في التحايل على القوانين فلكل شيء كما شاهدنا في «شيكاغو» تخريجة تبيح القتل والسلب والنهب، وكله وفق الأصول القانونية المرعية، فهناك قضاة ومحلفون ومحامون ـ كدت اقول ومجلس أمن ـ لكن ذلك للمظاهر فقط، فجوهر العدالة الاميركية ان تسيطر على الاعلام، وتدفع جزيلاً للمحامين، وبعدها افعل ما شئت، فالقانون في صفك الى ان تتجه انظار الرأي العام الى جهة مختلفة، فهذه هي شيكاغو كما قال محاميها، ولك ان تقول، وهذه هي اميركا التي تستطيع ان تضلل فيها الاعلام والرأي العام والمحاكم بشرط ان تظل قادراً على الامساك بخيوط لعبة الرعب والاثارة وتوظيفهما لصالح موكليك تجاراً كانوا أم مومسات وقتلة.

ان الذين رشحوا فيلم «شيكاغو» لـ13 جائزة اوسكار يعرفون المزاج الاميركي، ويدركون انه قد يحصل عليها جميعاً أو أقل من ذلك بقليل، فذاك الاسلوب ـ كما اسلفنا ـ لم يعد سينما فحسب بل أسلوب حياة نشاهده يومياً كلما اصطدمت المصلحة الاميركية مع اية جهة. وفي النهاية وسواء كانت الشرعية محلية او عالمية، فإن المحامي الأميركي قادر على تمرير السيناريو الذي يريد، فالعدالة من المنظور الأميركي تعني ـ وكما علمنا بيلي فلنت في فيلم «شيكاغو» ـ القدرة على الدفع والرشوة واستثمار ضعاف النفوس وثغرات القوانين.

وبلا طول فذلكة، فهم يقولون لنا يومياً وعبر كل الوسائل: القانون حمار ونحن قادرون بحكم الخبرات المتراكمة على ركوبه وتسييره في الاتجاه الذي يخدم اهدافنا ومصالحنا.

وسواء كنت تشاهد فيلم بغداد ام فيلم شيكاغو، فالاسلوب واحد، والجوهر لا يتغير إلا في طبيعة الدم، ففي شيكاغو حبر احمر وتمثيل وفي بغداد دم حقيقي ينزف من بشر حقيقيين لم يرشحهم احد بعد لاوسكار اطول سيناريو حصار وتعذيب وابادة في التاريخ البشري.