الكلمة الحاسمة

TT

الغريب انه بعد 12 عاما على مغامرة الكويت التي دمرت العراق ورمدت القرار العربي السياسي، لا يزال كل شيء في يد بغداد. هي وحدها تستطيع ان ترد الحرب بكلمة من الرئيس صدام حسين. وهي وحدها تستطيع ان تعيد 200 ألف جندي اميركي مع بوارجهم الى فلوريدا او الاباما. وهي وحدها لها الكلمة الأخيرة، وسط كل الكلام الذي تقوله واشنطن او باريس او موسكو.

مجرد كلمة من بغداد، مفادها ان جميع قرارات هيئة الامم سوف تنفذ. وان مطالب المستر بليكس سوف تلبى. وان بين حياة العراق وحياة النظام، وقع الاختيار على حياة العراق. وان النظام يريد ضمانات دولية مكتوبة وموقعة، بأن بغداد لن تقصف واهله لن يحاكموا وان ملاذا آمنا سوف يعطى لهم، في أي مكان يختارون: شرط ان نوفر على العراق شر الحرب. شرط ان تحمي الشمال والجنوب من السقوط في اللحظات الأولى. ومن اجل ان نجنب العراق حربا اهلية او معارك ثأر او حروبا مريرة صغيرة ومتفرقة ومتناثرة بين معزولي الأمس ومعزولي الغد.

هناك طبعا كلام مقابل، من نوع الموت اشرف من الاستسلام، والدمار افضل من الهزيمة، والركام افضل من الخنوع. وهذا حق الفرد لنفسه لا حق الافراد في شعوبهم. وهذا حق الأنظمة عندما يكون لها في المواجهات حظ الخمسة في المائة او العشرة، او الثلاثة في الألف. لكن ليس من حق احد تكرار مسار الانتحار المطلق. ليس من حق احد خوض الحروب المعروفة النتائج سلفا، والمكررة العبثية، والمكررة التعابير، والمكررة المشاهد.

هناك هجمة واضحة ومعلنة على العراق. وكلما مر يوم اصبحت هجمة مؤكدة. وفي هذه الهجمة لا حساب او اعتبار لأحد: لا لأقدم الحلفاء في اوروبا ولا لأعرق الخصوم ولا للملايين التي خرجت الى عواصم العالم تندد بالحرب. ولم يعد مهماً ان كانت الهجمة «عادلة» ام «جائرة». ولا عاد مهما ان كان الهدف هو النفط ام هو المياه ام هو الشقق. المهم في هذه اللحظات الأخيرة هو، اولا، العراق: هو ان يقبل النظام بدل ان يرضخ العراق. والمؤسف والمحزن ان العراق قد رضخ حتى الآن في القضايا الكبرى. لقد قبل ان يجرد نفسه من مسألة التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل، وقبل ان يسلم اوراقه الى المفتشين. وقبل ان يفكك مواقع رفضه حاجزا بعد الآخر، من الدور الى القصور. ولم تعد الراية كما كانت في الحرب الماضية هي راية تحرير فلسطين بطريق الكويت. ولم يعد هناك شعار مرفوع من شعارات المرحلة. الآن هناك مواجهة بين دولة في مأزق مغلق ومحتوم هي العراق، وبين دولة في مأزق دولي وديبلوماسي هي اميركا. وكلاهما على المحك الأخير. اذا تراجع النظام العراقي وفر على العراق محنة كبرى اخرى، واذا تراجع جورج بوش عن هجمته سقط في اميركا وفي اوروبا، وفي العالم الثالث، ولذلك فهو غير قادر على التراجع ولو شاء. إلا اذا «غدره» العراق وسحب منه اسباب الحملة. إلا اذا قال العراق، مثلا، انني اسلم الأمر الى الجامعة العربية اليوم واقبل بحل عربي، بدل ان تفرض عليه هذه الوصاية المعلنة ما بين الحصة التركية والحصة الروسية والفرض الاميركي وغطاء الامم المتحدة.

لسنا أمام خطاب حماسي آخر. لسنا أمام قواف شعرية اخرى. لسنا أمام مواجهة مع دولة جارة يخوضها الاخرون بالواسطة. انها، ايها السادة، حرب كبرى بين «اقوى قوة عسكرية في التاريخ» وبين دولة محاصرة منذ عقد. حاولوا البحث عن حل آخر. ادعوا للعراق بالحياة. جنبوه هذه المحنة المعلنة. الحرب ليست في الاذاعات ولا في التلفزيونات. وليس مهما أبدا ان نربح حرب الديباجة ونخسر كل شيء آخر.