السياسة الأميركية تجاه العراق.. دمقرطة أم هيمنة أم هرولة؟

TT

رغم المعركة الدبلوماسية حامية الوطيس الجارية الآن في الأمم المتحدة، فان الغالبية العظمى من المعارضين للحرب ضد العراق يتفقون مع مؤيديها، على ان الرئيس صدام حسين لم يعد ملائماً للحكم، وعلى ان العراقيين وجيرانهم يستحقون نظاما افضل في بغداد. بعد هذا التوافق تتشعب الطرق وتؤدي بروادها الى مواقف مختلفة، او حتى متناقضة، باختلاف المصالح والرؤى. الله وحده يعلم ما ستوصل اليه الطرق المتنوعة مع نهاية هذه القصة سلماً او حرباً.

المتفقون على عدم ملاءمة الرئيس العراقي، لا يمكنهم التنكر لبعض منجزات الموقف الأميركي حتى الآن. صحيح ان سياسة الواقع ( Realpolitic) الأميركية تهدد بعدم مراعاة القانون والمواثيق الدولية، وتفرض نفسها بالقوة والضغط مُسخرة ومستفيدة مما يمكن تجنيده من القانون الدولي، وضاربة عرض الحائط بما لا يخدم سياستها. لكن بهذا الدفع اوصلت الادارة الأميركية الجميع على الاقل الى تقبل، او الموافقة على، فكرة التغيير السلمي للنظام الحاكم في بغداد.

هذا التقبل جاء لسببين رئيسين: الأول ان الرئيس العراقي لم يجدد نظامه جذرياً في السنوات الطويلة التالية على عاصفة الصحراء، وانما بدل ذلك ثبت كل السلبيات بل عمقها عبر انتخابات المائة في المائة وتحضير نجليه لتولي الحكم من بعده. وهكذا لم يعد من المنطقي ان يطالبه أحد بالبقاء في الحكم كثمن لمنجزاته تلك، كما لم يعد هناك من يصدق ان بقاءه، او استمرار نهجه في الحكم لسنوات قادمة، سوف يساعد العراقيين.

السبب الثاني لتقبل العالم ضرورة تغيير النظام العراقي، جاء كنتيجة مباشرة للسياسة الأميركية التي فرضت نفسها فعلياً على الجميع بضرورة فعل شيء ما، وكنتيجة لتعزيز القوات العسكرية حول العراق والتهديد بالحرب سواء بقرار دولي او بدونه. هذه الممارسة لسياسة الواقع اقنعت الجميع ان الشر الاصغر هو ازالة صدام حسين بدون حرب، حتى لو كان مبدأ تغيير الحكومات على هذه الشاكلة امرا مرفوضا. بمعنى آخر رأى الجميع ان الموقف الأميركي يصر على ازالة صدام حتى بالحرب، فمالوا الى تمني زوال صدام بدونها ونشطوا لاقناعه بالفكرة وتقديم ضمانات اللجوء اليه، وقد لا يوجد بين المعارضين للحرب من يتمنى بالفعل بقاء الرئيس العراقي وورثته في الحكم. التساؤلات الآن: هل يذهب صدام بسلام ؟ هل يتعاون بشكل اكبر وتام مع المفتشين ويطالب مجلس الأمن بفرصة عام من الزمن يمهد فيها لتغييرات سياسية جذرية وباشراف دولي؟ هل تتقبل منه هذه الادارة الأميركية، مثل سابقاتها، أي حل غير الرحيل؟ وهل بمقدور العالم منع الولايات المتحدة من شن الحرب عبر تعطيل قرار جديد في مجلس الأمن؟

وبالطبع تبقى تساؤلات مثل: اذا قامت الحرب، فهل لدى الرئيس العراقي اسلحة دمار شامل وقدرة على استعمالها وضد من؟ وما هي النتائج السلبية والايجابية المحتملة من شن الحرب؟

المقاومة الجماهيرية والدبلوماسية عبر العالم ضد الحرب، تطالب بمنح المفتشين زمناً كافياً للتأكد من صحة تطبيق العراق لقرار 1441. نجاح النظام العراقي في امتحان 1441 سوف يضعف أي منطقية او شرعية للموقف الأميركي. لكن نتائج التفتيش وتقارير المفتشين لمجلس الأمن تحمل في طياتها مخالفات عراقية آخرها قصة صواريخ «صمود» التي ظهر انها ذات مدى ابعد بثلاثين كيلو مترا من المدى المحدد في قرارات الأمم المتحدة، ولا يوجد أي ضمان ان الساعات التالية لن تكشف مخالفات اضافية قد تنفس الموقف المعارض للحرب.

عموماً، لو نجح المعارضون في تقنين الحرب عبر موافقة الامم المتحدة فقط وحسب ظرف وبهدف محدد سلفاً، وهذا ما تحاوله فرنسا وألمانيا وغيرهما الآن، فسيكون ذلك تعزيزاً لدور المنظمة الدولية يبشر بخير مستقبلي. واذا فرضت أميركا سياستها الحربية لاحتلال العراق وادارته بحكم عسكري مؤقت وبدون قرار دولي، فان ذلك سيكون بداية النهاية السريعة لمنظمة الأمم المتحدة مع كل العواقب الناتجة عن هذا التطور.

فكرة الحرب خارج اطار الأمم المتحدة وضعت مجلس الامن هذا الاسبوع امام اشد ازماته منذ عقود، وقد تؤدي الفكرة ايضاً لتفسخ دائم في حلف ناتو، وبالتالي فوضى اضافية في الاطر الدولية الضعيفة السائدة الآن وقبل الاتفاق على بدائل اخرى لها. مثل هذه النتيجة هي في العادة مقدمة لحروب اوسع ولخصومات وتأطير جديد عبر العالم. ونحن الآن نتلمس وجود خلافات بين الأوروبيين وانفسهم وبين بعضهم وأميركا، وتردد روسي وعدم وضوح للموقف الصيني.

الحسم العسكري في العراق قد يؤدي الى نتائج كثيرة ومتنوعة، مثل انتقام العراقيين من بعضهم، دون ان يكون بوسع قوات الاحتلال الأميركي فعل أي شيء لجهلها بالواقع الميداني.

لهذا السبب تطالب تركيا بحق المشاركة في ادارة العراق مع الجنرال الأميركي. وهناك احتمال لصراع متجدد بين الأتراك والأكراد في شمال العراق، وكلاهما من حلفاء الحكم العسكري الأميركي المنتظر في بغداد.

من النتائج الاخرى المحتملة للحرب ما قد يصيب تسعة ملايين حدث وطفل عراقي من مضار حسب بيانات الأمم المتحدة. وكنتيجة للحرب وملاحقها داخل العراق ستواجه ايران والأردن والسعودية وربما الكويت اعداداً غفيرة من اللاجئين العراقيين.

تلك بعض الاحتمالات القوية لحرب "نظيفة" سريعة ينهار فيها نظام صدام فوراً، لكن ماذا لو صحت المقولات الأميركية واتضح ان لدى صدام اسلحة بيولوجية؟

اذا صمد الجيش العراقي قليلاً وتحول الى مقاومة شعبية لاحقاً، فما هو عدد القتلى من الجنود الأميركيين الذي يمكن لوشنطن تقبله قبل الانسحاب؟ وما هي تأثيرات مثل هذا الصمود على الجماهير والدول العربية؟

يبدو ان سياسة الواقع الأميركية وصلت الان الى درجة اللاعودة فيما يتعلق بمصير النظام العراقي في شكله الحالي. فأي مهادنة الآن ستحلل كضعف وتردد في القرار الأميركي. لكن في المقابل فأي حرب لا تحسم مصير صدام فوراً، او تتطور لقتل مدنيين، ستعتبر جريمة تم التحذير منها سلفاً. وأي خسائر اميركية او ردود فعل ارهابية قوية سوف تقضي على مصير الرئيس بوش سياسياً. كما أي صمود عراقي في المعارك ينجح في التوصل لانسحاب أميركي سوف يعتبر نصراً لصدام حسين يحمل في طياته تغييراً جذرياً على مستوى الاقليم والعالم. اما انتصار أميركا في احتلال العراق فسيضع الجميع في حالة انتظار ومراقبة للوعود المتتالية الآن حول تطبيق الديمقراطية وتحسين حياة الشعب العراقي، أي ان الانتصار لن يكتمل بدون النجاح في مهمة ما بعد الحرب.

لقد نجحت السياسة الأميركية حتى الآن في اجبار الجميع على تقبل تغيير النظام في العراق، وعلينا ان لا نستبعد نهائياً احتمالات نتائج ايجابية اذا حُسمت الحرب بسرعة وبأقل الخسائر، ولا يضر تذكر ما انجزته الولايات المتحدة لدى خصميها في الحرب العالمية الثانية، ألمانيا واليابان. يمكن للقوة ان تحدث تغييرات مؤقتة، ولكن الافعال السلمية الحسنة هي الاقدر على ضمان وتوسيع التغييرات الايجابية المفيدة للجميع. والله اعلم بما ستؤول اليه الاوضاع، ولا غالب الا الله.