الآخر في قسوته

TT

كلما قرأت خبرا ـ وما اكثر هذه الاخبار ـ عن ندوة او مؤتمر لحوار الحضارات اتذكر السطرين الاخيرين في كتاب «اسلافنا العرب» لبوجن الزومور «سيظل هناك قطبان متضادان، وسيظل الغير بربريا بالنسبة لي.. اما ان شئنا اصدار حكم متوازن فنحتاج لألف سنة أخرى....».

وليس هذا رأي احد المتعصبين ضدنا بل احد المتعاطفين معنا، فهذا الكاتب السويسري ما يزال يعتقد ان قومه في منطقة فاليه Valais السويسرية يحملون ملامح عربية، ودماء عربية حارة، بل ويشكلون الضمير الحي لتلك البلاد الباردة.

ولا تستطيع ان تعتبر حكم هذا الكاتب المتعاطف متشائما فهو اوروبي يعني واقعي، ويعرف ما يدور حوله وبين حلفائه واهله الجدد الذين يتشكل تاريخهم من حروب دموية عنصرية طويلة، وفترات تسامح قصيرة ما تكاد تطل برأسها حتى يأتي من يبتره، ويعيد عجلة العنف الى دورتها الاولى، فالآخر لم يكن لطيفا، ومتحضرا على الدوام انما كان في اغلب الحقب مبالغا في قسوته.

لقد كان حوار الحضارة الاسلامية مع اوروبا دمويا في اسبانيا وجنوب فرنسا وايطاليا وسويسرا وجاء الرد الاوروبي اكثر دموية ووحشية، فتاريخ 973 ميلادية وهو التاريخ الذي بدأت فيه حروب الاستعادة لما استولى عليه العرب من الاراضي الاوروبية يفوق في اهميته من وجهة نظر هذا الكاتب تاريخ 732م الذي وقعت فيه معركة بلاط الشهداء «بواتيه»، التي اوقفت الزحف العربي شمالا منذ عهد هشام بن عبد الملك وتركت القوات التي وصلت الى تلك المناطق مكشوفة ولقمة سائغة للانتقام، الذي سيستمر قرونا بمبادرات الاقطاع المحلي الفردية ثم تحت راية موحدة للكنيسة منذ عام 1088، الذي شهد بذرة الحملات الصليبية التي ستنطلق اولاها عام 1095.

ان ما لم يستوعبه المؤرخون العرب القدامى والجدد هو ان تلك الحملات المتجهة للمشرق قضمت الدويلات العربية في اوروبا والسواحل المتوسطية اولا قبل ان تصل الى بيت المقدس، فالاحتكاك الحقيقي والدموي حصل مع العرب الذين كانوا في اوروبا، وذلك الاحتكاك هو الذي بدأ الارث الدموي الذي سيتعزز لاحقا بالحملات المشرقية ثم ينتقل تأثيره الى حركات اصغر على شكل حملات القرصنة المتبادلة بين الجانبين.

ومن الطبيعي لهذا الارث، الذي جعل الآخر بربريا على الدوام وعلى مدار عشرة قرون، ان يلقي بظله على أي حوار حضاري، فهذه الحوارات لم تبدأ في ايامنا انما بدأت من ايام المعتمد بن عباد الذي وظف صديقه ووزيره ـ وضحيته لاحقا ـ ابن عمار خصيصا لهذه الحوارات، وكان يرسله على الدوام في وفود تعرض الصداقة والمحبة والتسامح والاخاء، واحيانا كان ينجح، لكن عجلة العنف دوما اقوى من اي صوت سلام، ولا يوقفها الا عنف مثلها، فالذين خربوا مبادرات المعتمد، وابن عمار السلمية اضطروا للانصات حين جاءهم ابن تاشفين بجحافله، وبلغة يفهمونها او لنقل لا يفهمون غيرها، فهذا ما يؤكده تاريخ المتوسط على الضفتين.

ان اي حديث سلام ومحبة من موقف ضعف نادرا ما يجد من يصغي اليه، لكن هذا لا يعني ان نتوقف عن الحوار، فهو ضرورة حتى لا تنقطع الجسور، ويترسخ سوء الفهم، وتعود الصور النمطية الراقدة في بطون الكتب الى الظهور، فهناك دائما من هو على استعداد لايقاظها وتلميعها واستخدامها، خصوصا في فترات الازمات الاقتصادية والبطالة، حيث يصبح الآخر الهدف السهل، والمشجب الجاهز الذي يمكن ان نعلق عليه كل اشكال قصورنا واخطائنا وعقدنا.

ولا ننسى ايضا ان العالم فيه من المتحركات اكثر مما فيه من الثوابت فاوروبا، التي كانت صديقة اميركا ايام مشروع مارشال حينما لم يكن هناك اي شكل من الحوار معها، هي اليوم اول من يستشعر الخطر الاميركي الذي يضع عشرات الاعتراضات على وحدتها وعلى قوتها الاقتصادية وعلى «يوروها» وعلى تراثها المشترك مع الضفة الثانية للمتوسط، وفي هكذا ظروف يصبح الحماس للحوار الحضاري مضاعفا لكن اين من ينقله من الدائرة المفرغة التي يدور فيها منذ عدة سنوات الى الدائرة المثمرة التي تفتح وعي الطرفين على حقائق التاريخ والجغرافيا وحتمياتهما التي لا مناص منها.

لقد اخطأ من اخطأ، واصاب من اصاب، والانسان لا يستطيع ان يعيش في اسر الماضي الى الابد، ولا في اجترار العداوات الى ما لا نهاية، فمهما بالغت فئة في العنف والتعصب والتطرف سيكون هناك في ازمنة الحوار من يردها الى صوابها بقوة المنطق والعقل، فإن لم ينفعا فبقوة القانون الذي يجب ان يشكل مع الرؤية المستقبلية «الحكمين» الضروريين لرعاية اي حوار حضاري بين العرب واوروبا.