إدارة في دوامة

TT

الادارة الاميركية الان في أسر دوامة خطرة، اذ ان كلا من توجهها العسكري والدبلوماسي غير متوافقين، ثم انها فشلت جزئياً في الحفاظ على دورها القيادي التاريخي لمركز التحالف. هذا الامر مزعج تحديداً كونه يتشكل عشية الحرب التي اذا ثبت انه لا يمكن تفاديها، فان القانون الدولي كان سيبررها حسب القرارات الدولية المتوفرة ومن دون الحاجة الى قرار جديد من مجلس الامن.

لا شك في ان صدام حسين هو اخطر رئيس في العالم اليوم، وهذا يتضح من تصرفاته عبر العقود الثلاثة الماضية. وهو لو ترك في مكانه فانه حتماً مع الزمن سيجد الطرق لاعادة بناء ترسانة اسلحته التدميرية. ويعتبر الاخفاق في التخلص من صدام عام 1991 من ابرز الاخطاء في التاريخ الاميركي الحديث، مهما كانت الاعذار المقدمة آنذاك بضرورة الحد من دائرة عاصفة الصحراء في اطار تحرير الكويت.

لقد خسرت ادارة بوش في الايام الماضية مواقع على كل الجبهات تقريباً. وهكذا فالادارة تسير في طريق صعب وضيق: يبدو ان عليها شن الحرب في ظروف تراجع التأييد الشعبي لها، ليس في الخارج فقط ولكن داخلياً ايضاً. من المؤكد ان الاميركيين يشتهرون بوطنيتهم وفخورون بقواتهم المسلحة، وعندما تبدأ المعارك فانهم سيدعمون الرجال والنساء الذين يرتدون الزي العسكري. كان هذا هو الحال، وكما علينا التذكر، في كل مراحل الحرب، بما فيها فيتنام.

لكن هذه الحرب، ومهما كانت عادلة، تحتوي على عنصر مقامرة: مع مراعاة التأييد الضعيف لها، فلا بد ان تكون منذ البداية، الاسرع، ونظيفة نسبياً وناجحة، والا فالنتائج السلبية ستكون افدح من المتوقع. الحرب السريعة هي طبعاً أمل كل اميركي مهما كان موقفه او موقفها في الوقت الحالي. الجميع يأملون في حرب قصيرة زمنياً وبأقل عدد من الخسائر في الجانبين الاميركي والعراقي، حرباً لا تتوسع الى اسرائيل، او تستثير الارهاب في الداخل.

الادارة تغامر اذاً وتأمل ان تنجح في مهمتها العسكرية والسياسية ايضاً، وذلك باستراتيجية تعتمد اساساً على التفوق الاميركي الهائل على العراق. مرة اخرى، علينا الرجاء ان تكون هذه المعادلة صحيحة. فعلى الاقل في المرحلة العسكرية الحالية، يبدو اننا متفوقون، اذ لايمكن ابداً تجاهل قوة القوة في الاقناع، كما رأينا عبر الاستعمال الشديد والمركز والدقيق لقواتنا الجوية في البوسنة عام 1995 وكوسوفو عام .1999 لكن السياسة المعتمدة على القوة العسكرية فقط لن تكون ناجحة في المدى الطويل، حتى القوة العظمى (بل لانها القوة العظمى) تحتاج للكثير من الاصدقاء والحلفاء للحفاظ على تأثيرها الكوني.

خلال العقود الستة الماضية مزجت الولايات المتحدة نهجها بين قوتها الحربية المتفوقة وبين الاخلاق والقيادة السياسية. لسوء الحظ في الوضع الحالي فان بعض الاعضاء داخل الادارة، والكثير من مؤيديهم خارجها، تخلوا عن هذا التقليد وتصرفوا وكأن التفوق الكامل في اشياء مثل الرؤية الليلية (وغيرها من الانجازات التقنية الحديثة) يسمح للولايات المتحدة بتجاهل اهمية العلاقات التقليدية. هذا قصر نظر، فالقوة عبر العالم تُعرف وتحدد باشياء كثيرة اضافة الى القوة الحربية، ولا توجد دولة اكثر من الولايات المتحدة اظهرت بوضوح اهمية القيم والاقتصاد والثقافة والقيادة السياسية كعناصر ضرورية لتبيان قوتها.

هذا لا يراد به الدفاع عن بعض اقرب حلفائنا، والذين عبر تعاملهم مع تركيا، وهجومهم على بعض الديمقراطيات الحديثة في اوروبا، والذين يبررون بغرابة تجاوزات العراق قرارات الامم المتحدة، قد جعلوا صدام اكثر عناداً. ببساطة ان تصرفات بعض البلدان، خصوصاً فرنسا والمانيا، مقترنة بالمظاهرات الحاشدة ضد الحرب، قد ساعدت بدون شك الديكتاتور المنعزل في بغداد ليعتقد ان بوسعه شق التحالف والنجاة بنفسه.

ضمن هذه الرؤية صدام مخطئ. لكن التهجم على فرنسا لا يعوض عن ضرورة السياسة. يجب عدم التسامح مع الادارة قبل التساؤل حول بعض تكتيكاتها واستراتيجيتها الاخيرة. بعد الاداء الدبلوماسي الرائع من قبل كولن باول في انجاز قرار مجلس الامن 1441، استجابت الادارة لاصرار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير واتخذت قراراً باللجوء الى الامم المتحدة لاتخاذ قرار اخر مخصص لاستعمال القوة. كان ذلك مهماً سياسياً لتوني بلير، وتجاوبت واشنطن مع طلب حليفها القوي في لندن.

لكن الوضع الان يشبه اقتراب تصادم قطارين لان القرار الثاني المطلوب يبدو عصياً كون فرنسا والمانيا (وربما روسيا) يقودون المعارضة. النتيجة ان التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قد يكون عليه التنازل عن نصره في احراز 1441 في مقابل هزيمة فشل تحصيل القرار الثاني الذي لم يكن مطلوباً. هذا الحال سيترك الانطباع بأن أي عمل عسكري لاحق سيبدو وكأنه معارض لارادة مجلس الامن بدل ان يكون ذلك العمل العسكري نتيجة منطقية لجرجرة العراق وتلكعه في تنفيذ القرارات.

هذا الامر التقني يحمل في طياته مغامرة اخرى يمكن ان تلاحق صناع السياسة الاميركية والبريطانية الا اذا نجحوا في انتزاع معجزة من هذه الفوضى. قد يمكن التوصل للقرار الثاني، ولكن اذا تقدم هانس بليكس بتقرير اكثر سلبية مما فعل حتى الآن. هذا الشيء ممكن بالطبع (خصوصاً اذا كان صدام غبياً) لكن الولايات المتحدة يجب عليها ابداً ألا تضع نفسها في موقف يكون بوسع موظفين مدنيين دوليين او حكومات اجنبية ان يتحكموا في قرارات تؤثر على مصالحها القومية.

في موقف مشابه لهذا اثناء عام 1999 قررت ادارة الرئيس كلينتون وحلفاؤنا في الناتو مهاجمة صربيا بالقنابل (طوال 77 يوماً) بدون البحث عن موافقة دولية، وذلك بعد اتضاح أن روسيا سوف تستخدم الفيتو ضد أي قرار بالهجوم. هذه المقارنة مع حالة ادارة بوش العضلاتية قد تبدو غريبة خصوصاً اذا اخذنا في الاعتبار ان صدام حسين اسوأ بكثير من سلوبودان ميلوشيفتش، وان العراق يخلف وراءه تجاوزات لقرارات مجلس الامن بينما لم تكن هناك أي قرارات في كوسوفو.

في النهاية، القوة العسكرية البحتة سوف تتفوق على الأرجح ضد خصم ضعيف. لكن العملية الدبلوماسية غير المضمونة، والتي اوصلت الادارة الى حافة خوض الحرب بينما المعارضة العالمية لها تتعمق، لا تسهل الامر على الذين كانوا يؤيدون تدعيم القرار الدولي القائم لشن الحرب. ذلك الطريق عطلته خربطات لندن وواشنطن في محاولتهم الغريبة للتوصل لقرار ثان غير ضروري. هذا النهج لا يمهد ايضاً للمرحلة الهامة بعد صدام، اذ صرحت واشنطن اخيراً عن خططها لادارة عسكرية اميركية للعراق وهذا ما سيشعل المخاوف بأن الولايات المتحدة تورطت في ما اسماه ونستون تشرشل بعد مقتل عدة ضباط بريطانيين في العراق عام 1920: «تلك الصحارى غير الشكورة».

* السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة

خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»