متاعب واشنطن تبدأ مع إعلان وقف إطلاق النار

TT

تكاد الحرب على العراق، بقيادة أمريكا، ان تكون أمراً حتميا. وربما يكون وقوع انقلاب عسكري بقيادة الحرس الجمهوري، أو وفاة صدام حسين، أو موافقة الحكومة العراقية دون قيد أو شرط على مطالب الأمم المتحدة بالإعلان عن جميع أسلحة الدمار الشامل المتبقية لدى العراق، هي الطريقة الوحيدة لمنع غزو أمريكي على نطاق واسع. لكن ولأسباب عديدة، لا يبدو أن أياً من هذه الاحتمالات وارد، على الأقل، في المستقبل المنظور. ولذلك فإن البديل الأمريكي سيكون عمليات قصف جوي مكثفة قد تستمر لثلاثة أسابيع، تمهد لغزوٍ بري واسع النطاق، يشارك فيه نحو 350 ألف جندي تنطلق من الكويت وتركيا.

من نافلة القول ان عملية عسكرية واسعة للإطاحة بنظام صدام سيكون لها انعكاسات هائلة، ليس على العراق وحسب، ولكن على دول منطقة الخليج أيضاً. ولإلقاء الضوء على التبعات المتوقعة لهذه الحرب، عقدت في مركز الخليج للأبحاث، بالتعاون والتنسيق مع المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، حلقة دراسية تحت عنوان «التدخل في منطقة الخليج»، استعرضت فيها نخبة من الأكاديميين والخبراء في شؤون المنطقة على مدى يومين متتالين 16 ـ 17 فبراير (شباط) الجاري، أهم القضايا المتعلقة بانعكاسات التدخل العسكري الأمريكي وتغيير النظام في العراق، على منطقة الخليج، وخصوصاً الآثار المباشرة على السياسات المحلية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. كما تطرق المشاركون إلى مناقشة موضوع التدخل من النواحي القانونية والسياسية والإدارية وتأثيراته على سيادة الدولة، وكذلك التحديات التي يفرضها في مجالات حفظ الأمن والمؤسسات القضائية وحقوق الإنسان، وتسوية النزاعات، وحماية الأشخاص والفئات المحسوبة على النظام السابق، بالإضافة إلى ضرورة ضمان مراقبة المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية وحقوق الإنسان لعمليات التدخل، وذلك لضمان عدم إساءة استخدام التدخل لتحقيق مصالح خاصة.

أدار جلسات الحلقة الدراسية، د. يزيد صايغ، مستشار المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة كامبردج، و د. توبي دودج، الأستاذ والباحث في جامعة ورويك البريطانية.

الحملة العسكرية

نظراً لما ستثيره الحرب على العراق من حساسيات في العالم الإسلامي، فإن القيادتين العسكرية والسياسية في واشنطن ستحاولان إنجاز الحملة العسكرية في أقصر وقت ممكن. ولذلك فإن هجوماً من الجو ومن الكويت وتركيا، يهدف إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي العراقية وتشتيت القوات العراقية ومنعها من شن هجوم مضاد منظم ضد القوات الغازية.

القصف الجوي الذي قد يستمر نحو ثلاثة أسابيع سيركّز بشكل أساسي على أنظمة الدفاع الجوي، ومواقع أسلحة الدمار الشامل، ومراكز قيادة القوات العسكرية، ومنازل بعض كبار رجال الحكم، ومعسكرات قوات الحرس الجمهوري الخاصة. أما الطرق، وخصوصاً الجسور، فإنها لن تستهدف، لأن قوات التحالف ستحتاج إليها لضمان تحرك القوات بسرعة من غرب البلاد عبر نهري دجلة والفرات.

استهداف رجال الحكم والقوات التي تقوم على حمايتهم وقوات الحرس الجمهوري الخاصة المتمركزة في بغداد، سيكون له أهداف سياسية. فإذا أدت عمليات القصف الجوي إلى قتل صدام، فإن تغيير النظام يكون قد تحقق من دون تعريض القوات البرية الأمريكية للخطر. كما أن هذا الاستهداف سيكون بمثابة رسالة واضحة إلى قوات الحرس الجمهوري المتمركزة على الطرق الرئيسية الثلاثة المؤدية إلى بغداد، ويشجعها على التحرك ضد الحكومة العراقية حتى لا تصبح هي نفسها هدفاً للقصف الأمريكي.

إذا لم يُؤد القصف الجوي إلى مقتل صدام، أو إلى انقلاب ناجح، فإن القصف سيستهدف ألوية المدرعات التابعة للحرس الجمهوري وغيرها من قطاعات القوات المسلحة. بعد تدمير مراكز القيادة والاتصال وضرب القوات المسلحة، سيبدأ الهجوم البري، ومن المتوقع أن تكون القوات الخاصة قد انتشرت وأخذت مواقعها تحت غطاء القصف الجوي، وستكون مهمتها الأولى هي منع العراق من إطلاق صواريخ على إسرائيل من الصحراء الغربية، وكذلك، منع القوات العراقية من تدمير آبار النفط.

كما استعرض المشاركون أربعة سيناريوهات محتملة هي:

انقلاب مبكر

الانقلاب العسكري المبكر ليس أمراً محتملاً وخصوصاً أن صدام حسين عيّن كبار القادة العسكريين ممن تربطه بهم علاقات عائلية أو عشائرية. ولكن هذا لا يمنع بعض الجنرالات الطموحين من الحرس الجمهوري من محاولة الإطاحة بصدام وكبار معاونيه. فإن تحرك ألوية من الحرس الجمهوري إلى شمال وجنوب بغداد لمواجهة الغزو الأمريكي سيجعل منها هدفاً سهلاً للقصف الجوي الأمريكي، وقد يشجعها ذلك على التمرد على القيادة العراقية والتوجه إلى بغداد للإطاحة بصدام.

أصحاب القرار في واشنطن ولندن يفضلون حدوث مثل هذا الانقلاب المبكر لأنه يعطي الفرصة لهم للقول بأن تصميمهم وإصرارهم أديا إلى هذا الانتصار والتخلص من صدام دون وقوع خسائر بشرية في صفوف قوات التحالف. كما أن التخلص من أسلحة الدمار الشامل سيؤدي في نهاية الأمر إلى رفع الحصار المفروض على العراق.

انقلاب متأخر

الانقلاب العسكري المتأخر قد يكون النتيجة الأكثر احتمالاً للغزو الأمريكي للعراق. لقد طور صدام حسين سلسلة متداخلة من الأجهزة الأمنية ووحدات الحرس الشخصي تتنافس فيما بينها وتتجسس على بعضها، ولذلك فإن إمكانية قيام أي من هذه الأجهزة بانقلاب تبقى ضعيفة جداً. ولكن لا بد من حدوث أمرين لنجاح انقلاب عسكري متأخر:

الأول والاهم، هو نجاح الغزو العسكري الأمريكي، في مراحله الأولى على الاقل، وتحقيق تقدم ملموس باتجاه بغداد، مما يعطي انطباعاً لدى الأجهزة الأمنية وقوات الحرس الخاصة بأن النظام أصبح على وشك الانهيار. أضف إلى ذلك أن ذلك سيؤدي إلى زعزعة تماسك الأجهزة الأمنية وقدرة النظام على السيطرة على القوات المسلحة. سيعطي هذا فرصة للقيام بانقلاب، وخصوصاً إذا تحرّكت قوات الحرس الجمهوري باتجاه بغداد بحيث لن يكون هناك من خيار أمام الحرس الخاص بالرئيس إلا القتال حتى الموت دفاعاً عن نظام آيل للسقوط أو الانضمام إلى قوات الانقلاب.

السيناريو الثاني سيوفر على بغداد حصاراً طويلاً أو حرب شوارع بين القوات الأمريكية والعراقية الموالية لصدام. إلاّ أن النتيجة ستكون محرجة للقوات الأمريكية لأن سيطرتها على معظم الأراضي العراقية ستتركها مسؤولة، بشكل مباشر، عن معظم الشعب العراقي ولكن دون السيطرة على بغداد التي تضم ما يناهز خمسة ملايين نسمة، ولن تستطيع القوات الأمريكية تجنب إجراء مفاوضات مع الحكام العسكريين الجدد في بغداد الذين سيحكمون البلاد بالطريقة نفسها التي كان يمارسها صدام حسين. ولذلك يمكن للإدارة الأمريكية، وبسبب قلّة الموارد والوقت، بسبب الضغوط الداخلية في أمريكا، أن تكرر ما قامت به في أفغانستان في مرحلة ما بعد طالبان، والقبول بالأسلوب القديم للحكم من دون القدرة على إجراء إصلاحات سياسية جذرية.

استمرار الصراع

استمرار المعارك لما يزيد على 12 شهراً من دون تحقيق نصر حاسم ليس احتمالاً وارداً، خصوصاً أن الرئيس بوش هو السياسي الوحيد المشارك في حرب العراق، وتعتمد اعادة انتخابه لولاية ثانية على نتائجها. لذلك فإن الرأي العام الأمريكي سيخيّم على هذه الحملة. الرأي العام الأمريكي لن يتحمل حرباً طويلة الأمد تؤدي إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا في صفوف القوات الأمريكية. ولكن الحرب قد تطول إذا نجحت خطط الدفاع العراقية، أو إذا قامت حركات مقاومة تشارك فيها قطاعات واسعة من الجماهير العراقية.

إذا توقفت العمليات العسكرية الأمريكية قبل تمكنها من دخول بغداد وتغيير النظام، فإن النتائج على المديين القصير والطويل ستكون مدمرة. الإبقاء على حكومة عراقية ضعيفة سيؤدي إلى سيطرة بعض فئات الشعب العراقي أو قواته المسلحة على أجزاء من العراق. فإضعاف النظام من دون وضع نظام بديل قوي سيؤدي إلى انهيار الوضع الأمني في البلاد وربما إلى التقسيم كما حدث في الصومال. وسيترك الانسحاب الأمريكي فراغاً أمنياً يفتح المجال أمام تعاون بعض فئات الشعب مع دول مجاورة مثل تركيا وإيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى نشوب صراعات مسلحة بين دول المنطقة للسيطرة على أجزاء من العراق. سيؤدي هذا إلى حالة من الفوضى العارمة وعدم الاستقرار في المنطقة وكذلك إلى نزوح مئات الآلاف من العراقيين للدول المجاورة، وتتعرض سمعة أمريكا وهيبتها في المنطقة والعالم إلى أضرار جسيمة.

أما العامل الآخر الذي قد يؤخر تقدم القوات الأمريكية إلى بغداد، فهو قيام انتفاضة في جنوب البلاد كما حدث عام 1991. فالقوات الرئيسية التي شاركت في أحداث 1991 في الجنوب كانت مجموعة من الجنود المنسحبين من الكويت بسبب القصف المكثف الذي تعرضت له من قوات التحالف. في غياب القيادة والشعور بأنهم تعرضوا للخيانة انضم الجنود إلى السكان المحليين في ثورتهم ضد نظام بغداد. إذا ما أدى القصف الأمريكي إلى قيام انتفاضة جديدة ضد النظام فإن القوات الأمريكية ستجد نفسها لا تحارب القوات العراقية وحسب، ولكنها ستحاول فرض النظام على جماهير الشعب وإعاقة تقدمها باتجاه بغداد أيضاً.

حكومة مفروضة

يبدو هذا السيناريو هو الأكثر احتمالاً. ويمكن القول إن مشاكل أمريكا مع العراق ستبدأ في اليوم نفسه الذي يعلن فيه وقف إطلاق النار. المقربون من الرئيس بوش الأب يقولون إن قراره بعدم مواصلة القتال حتى بغداد عام 1991 كان بسبب عدم رغبته في التورط في السياسة العراقية.

بعد السيطرة على العراق سيتوجب على صانعي القرار الأمريكي وحلفائهم أن يقرروا ما اذا كانوا على استعداد لإعطاء الوقت الكافي (من ثلاث إلى عشر سنوات) وتأمين الموارد والكوادر البشرية لمعالجة المشاكل التي تعاني منها السياسة العراقية، أم أنهم سيكتفون بتغيير الأشخاص في رأس السلطة وإطلاق يدهم ليحكموا البلاد كما حكمها النظام السابق. يبدو أن الاحتمال الثاني هو الأقوى وخصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار حالة الركود التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي وموقف الشعب الأمريكي من وقوع أعداد إضافية من الضحايا.

خلال ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر بعد الغزو، ستركز القوات الأمريكية اهتمامها على فرض القانون والنظام ومنع بعض قطاعات الشعب العراقي من القيام بأعمال انتقامية ضد أتباع النخبة الحاكمة السابقة.

الاختبار الأساسي الأول لتصميم أمريكا على تسوية الخلافات سيكون في منطقة الأكراد في شمال العراق حيث تتمتع الميلشيات المسلحة بحكم ذاتي. فعدم تجريد هذه المليشيات من أسلحتها وإعادة دمج شمال العراق بالوطن الأم سيؤدي إلى تبني أمريكا لسياسة الحدّ الأدنى من الإصلاحات.

إن نجاح حرب جديدة ضد العراق سيكون بمثابة لحظة حاسمة في بلورة «مبدأ بوش» الذي يحاول تحديد معالم العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة مع الإدراك الكامل للآثار السياسية للعولمة. الدمار الشامل.

ان ديناميكيات السياسة العراقية الداخلية ليست الهدف الأول للحرب القادمة. فالنظام العراقي القائم، بالنسبة لإدارة الرئيس بوش، هو مثال لإحدى دول العالم الثالث التي تصر على تحدّي أمريكا. فبالرغم من الغزو والقصف المستمر والعقوبات الاقتصادية القاسية فإنها لا تزال ترفض طلبات أمريكا والمجتمع الدولي. ولذلك فإنه من خلال تنفيذ عملية تغيير النظام في بغداد، فإن واشنطن ترسل إشارة واضحة حول التزامها بمبدأ بوش وكذلك ما يمكن أن تبذله من جهد وتقدمه من تضحيات لتحقيق أهداف سياستها الخارجية ومصالحها القومية.

* باحث سعودي