واحد، اثنان، ثلاثة!

TT

ليست هناك نقطة مركزية واحدة في قضية العراق. هناك ثلاث نقاط كل منها لها ابعادها السياسية والاستراتيجية. اولها طبعا، بغداد، حيث النظام والحكم والادارة. وهذه نقطة تعني جميع العرب وجميع العالم. وهناك الشمال، وهو قضية مفصلية مصيرية بالنسبة الى الحكم المركزي. وبالنسبة الى تركيا، وبالنسبة الى اميركا، وبالنسبة الى المعارضة العراقية. وبالنسبة الى توازن القوى العام. وهناك الجنوب، وهو سيقرر وضع العراق المقبل ووضع ايران الاقليمي وصورة التوازنات في بعض المشرق العربي وبعض الخليج.

ويتفق الشمال والجنوب حتى الآن على محاربة بغداد. وكانت بغداد قد خاضت حروبها المفزعة في الجنوب وفي الشمال. ولكن بعد الحملة الاميركية سوف ينصرف كل منهما الى نفسه وفي اتجاه ذاته. الشمال سيخوض حرب النفوذ مع تركيا، والجنوب سوف يخوض حرب النفوذ الى جانب ايران، والاثنان سوف يخوضان صراع القوى مع الحكم المركزي في بغداد.

العراق ليس افغانستان لكن الشبه بين «الجهات» كثير. «فتحالف الشمال» سوف يصل الى العاصمة بعد غياب طويل والجنوب سوف يطلبها بعد صمت طويل، والحزب الحاكم سوف يخوض معركة البقاء والمعارضة تنتظر الحصص. فقد رعاها الاميركيون على انها البديل. والآن يطرحون ادارة مشتركة فسيفسائية بديلاً لها. وكبارها يتذمرون من التغير الاميركي: من عدنان مكية الى احمد الجلبي. والمرء يفهم الا يكون رجل اعمال مثل الجلبي على اطلاع على متحولات السياسات الاميركية وشجون تحالفاتها، اما ان يفاجأ بالامر استاذ في العلوم السياسية مثل عدنان مكيّة، فلا حول ولا قوة. فليس سرا على احد ان اميركا هي افضل من طبق القاعدة التشرشلية القائلة بأنه ليس في السياسة صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة. واقامة الدكتور مكية في جامعات اميركا جعلته يعتقد ان الحرية هي للجميع وفوق الجميع. لكن ذلك لا يشمل الحالات الطارئة والازمات الكبرى. وفي سايغون كان بعض الجنرالات الفيتناميين ينامون رؤساء ويفيقون سابقين. وكان اكثرهم وسامة الجنرال نغوثيو، الذي امضى سحابة اشهر رئيسا ويمضي سحابة عمره صاحباً لمطعم «ماكدونالد» في اميركا.

هذه هي الحروب: لا هي هينة على اصحابها ولا على اعدائها. وهي تبدأ في مكان وتنتهي في آخر. وفي الطريق بين نقطتين تتغير الكثير من الاحوال ويتغير الكثير من الرجال. والمعارضة بعد الحرب لن تكون المعارضة قبل الحرب، لا في الشمال ولا في الجنوب ولا في الخارج. فالحزبان الكرديان الرئيسيان لهما تاريخ رائع في الانفصال والاتصال والتآلف والتناكف اول الطريق ومنتصف الطريق. واذا كان هذا الحال قبل السلطة فكيف بحلولها.

و«شيعة العراق» موحدون الآن بفضل صدام حسين وذكريات صهره الراحل في النجف. اما اذا تغير وجه بغداد او ملامحها، فإن التهافت على اقتسام الجوائز لن يقتصر على عادات احزاب الشمال، بل سوف تمتد العدوى الى المنتظرين والموعودين والمتلهفين في الجهات الاربع.

لكن بقدر ما في تركيا وايران من ارتياح ضمني للحملة بقدر ما هناك من قلق. فلا تركيا تريد ان ترى شمالاً قوياً او جنوباً مستقوياً ولا ايران تريد ان ترى شمالاً مستقوياً او حكماً مركزياً قوياً. ولا هي تطمئن الى وجود حكم متحالف مع اميركا، سواء بالغطاء الجنوبي او الشمالي. فاذا سقطت بغداد فهذا يعني ان اميركا لن تتوقف عند الحلقة الوحيدة او الحلقة الاولى من «محور الشر». ولا هي مطمئنة الى بيان كولن باول الرسمي بأن اميركا «ستعيد رسم خريطة الشرق الاوسط»، لان الشرق الاوسط في هذا المعنى ليس الشرق العربي وحده وانما هو الشرق الاوسط الذي حدده الاميركيون في الخمسينات وضموا اليه للمرة الاولى افغانستان وباكستان وتركيا.