«سيناريوهات» اللحظات الأخيرة قبل اندلاع الحرب

TT

إذا كان، عرْضُ الرئيس العراقي صدام حسين، بأن تكون هناك مبارزة كلامية تلفزيونية، بينه وبين الرئيس الأميركي جورج بوش، بدلاً من الحرب وعوضاً عن الجيوش والدبابات، جدّياً، فإن هذه طامة كبرى، وإنها «أمّ الكبائر»، فالمسألة ليست بهذا المستوى من التبسيط والسطحية والمسألة ليست مسألة منطقية بحيث تكون الغلبة للأكثر فصاحة والأكثر قدرة على الإقناع.

في مسألة «التحكيم» المعروفة في التاريخ الإسلامي، لم تكن بلاغة عمرو بن العاص العامل الحاسم في ترجيح كفة معاوية بن أبي سفيان، وإنما العوامل الأخرى، المال والرجال والسيوف والنبال، كما أن غفلة أبي موسى الأشعري ليست هي التي أضعفت موقف علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وجعلت تلك المواجهات الدامية تنتهي إلى ما انتهت إليه.

لو أن الأزمة الملتهبة بين العراق والولايات المتحدة مسألة بيان وبلاغة وإقناع بالأساس، فإن الغلبة ستكون بالتأكيد لصدام حسين على جورج بوش، ولو أن المسألة مسألة حق وباطل فلما كانت هناك دولة إسرائيل ولما وصل عدد الدول العربية إلى أكثر من عشرين دولة ولما مرّت كل تلك المآسي التي رأيناها في القرن العشرين والقرون الأربعة التي سبقته ولما كان وضعنا الراهن على هذه الصورة.

إن المسألة ليست مسألة مَنْ الأفصح لساناً والأقوى حجة، إنها مسألة موازين قوى ومصالح دولية متداخلة، كما أنها مسألة طبيعة أنظمة، إذْ من المستحيل أن تنتصر الصيغة الشمولية ـ الدكتاتورية على الصيغة الديموقراطية، ولهذا فقد انهزم هتلر ومعه صديقه الحميم موسيليني، ولهذا انهار الاتحاد السوفياتي الذي بناه جوزيف ستالين بالحديد والنار وبالمذابح الجماعية وأقبية المخابرات ومعتقلات سيبيريا الرهيبة.

ما عرضه صدام حسين على جورج بوش الابن، بصيغة التحدي، لا يمكن أن يحل مشكلة ولا يمكن أن يقطع الطريق على حرب، باتت تقف على الأبواب، فالأميركيون «الطغاة» يعلنون بلا خجل ولا وجل، أن طرفي المعادلة هما: إما الحرب وإما تنحي الرئيس العراقي عن مواقع المسؤولية، ويختار بلداً يعيش فيه بقية عمره ويستمتع بعيداً عن الحروب و«أمهات المعارك» بأمواله والخيرات التي سيحملها معه.

فهل سيقدِمْ صدام حسين على هذه الخطوة ليفتدي بلده بنفسه وليمنع حرباً يبدو أنها غدت تحصيل حاصل، إذا لم يقدم الرئيس العراقي على هذه الخطوة..؟!

كل الذين يعرفون صدام حسين، سواء عن بُعد أو قرب، يستبعدون هذا الاحتمال، بل ويجزمون بأنه سيبقى يقاتل حتى ولو لم يعد يقف إلا على متر مربع واحد من أرض العراق، وحتى لو لم يبق إلى جانبه سوى أبنائه ومرافقيه وعلي حسن المجيد.

ويستشهد هؤلاء بتلك القصة المعروفة، عندما أبدى الخميني ذات يوم خلال حرب الخليج الأولى، استعداده لإيقاف تلك الحرب إذا تنحى صدام حسين عن واجهة الحكم مع بقاء نظام البعث وبقاء القيادة ذاتها والتركيبة إياها.

.. يومها، كما تقول هذه القصة التي أجمع كثيرون على أنها صحيحة وحقيقية، دعا الرئيس العراقي مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث الحاكم وأعضاء الحكومة إلى اجتماع مشترك وأبلغهم بالعرض الإيراني مع إبراز نفسه محايداً ومستعداً للالتزام بالقرار الذي يتخذه «الرفاق» في الاجتماع المشترك.

وكما جاء في هذه الرواية، فقد بادر وزير الصحة المتخرج تواً من إحدى الجامعات الغربية والذي كان لا يزال متأثراً بديموقراطية الغرب وليبراليته إلى تأييد أن يتنحى «الرئيس القائد حفظه الله» عن موقع رئاسة الجمهورية وأن يبقى أميناً عاماً للحزب، وبحيث تنتقل مركزية القرار من رئاسة الجمهورية إلى قيادة الحزب.

وكما جاء في هذه الرواية أيضاً، فقد ابتسم صدام حسين وأشار إلى مرافقه الذي كان يقف وراءه بحركة من يده، فاندفع المرافق وانتزع وزير الصحة الليبرالي المسكين من بين رفاقه واقتاده إلى غرفة مجاورة وأطلق عليه النار، ثم عاد إلى موقعه وبقي الاجتماع مستمراً ليتخذ قراراً في النهاية برفض العرض الخميني «الخبيث» والهتاف بحياة الرئيس القائد الخالد.

ان هذه الرواية المثبتة بأكثر من شاهد وشهادة، تؤكد ان صدام حسين ليس من ذلك النمط من القادة الذين يساومون على مواقعهم، حتى ولو من قبيل اتقاء شر يهدد البلاد كلها، ولعل ما يمكن إعادة قوله هو أن الرئيس العراقي لديه قناعة بأنه موفد العناية الإلهية ليس للعراق فقط، وإنما للأمة العربية كلها، وأنه غير جائز أن يتخلى عن مسؤولياته مهما كان حجم العواقب الوخيمة ومهما كانت الأخطار.

لكن ورغم هذه القناعة، التي هي قناعة كثيرين من داخل العراق ومن خارجه، فإن هناك من بدأ يقول إن صدام حسين رغم شجاعته المتناهية، ورغم إيمانه بصحة موقفه وعدالة قضيته، إلا انه محبّ للحياة وخاصة أنه أمضى كل عمره في الصراع والحروب وأنه الآن تجاوز مرحلة الكهولة إلى مرحلة الشيخوخة.

ويذكر هؤلاء بدون أدلة ولا إثباتات، ان الرئيس العراقي رغم كل التشدد الذي أبداه والذي لا يزال يبديه، قد ترك نافذة للحل السلمي بمفاتحة بعض من زاره من «الشخصيات العالمية» التي يطمئن إليها باستعداده للتخلي عن مواقعه القيادية بشرط أن يبقى داخل العراق وأن يبقى حزب البعث في السلطة وأن لا يشمل التنحي المفروض أبناءه وأقاربه وبعض أعضاء قيادته.

ويبدو، وفقا للتقديرات، أن صدام حسين فاتح الموفد الروسي يفغيني بريماكوف، الذي زار بغداد قبل أيام والذي أبلغه بانحسار الخيارات لتصبح خيارين فقط هما: اما التنحي أو الحرب، بهذه الصيغة «المعقولة» لحل هذه الأزمة الطاحنة، أي ترك الحكم والبقاء في بغداد واحتفاظ حزب البعث بالسلطة.

ثم وإلى جانب هذا العرض الذي من غير الممكن أن تقبل به الولايات المتحدة، فإن بعض المعلومات تتحدث عن حلول أخرى طرحها العراق، ويسعى لتشكيل لجنة دولية من عدد من «الحكماء» من بينهم مانديلا وبين بيللا من أجلها، من بينها إعلان العراق دولة محايدة منزوعة السلاح، ولكن بضمانات مؤكدة للحفاظ على وحدته وعدم تعرضه إلى أي عدوان خارجي أو التدخل في شؤونه الداخلية.

ان هذه هي «السيناريوهات» التي تطرحها أوساط تعتبر نفسها على اطلاع بالشؤون الداخلية العراقية ولعل ما يعطي لهذه «السيناريوهات» بعض الجدية والمعقولية، رغم عدم وجود تأكيدات مثبتة ان كبار المسؤولين العراقيين دأبوا في الفترة الأخيرة على إغراء الإدارة الأميركية بالاستعداد للحوار معها والاستعداد لتوقيع الاتفاقيات النفطية التي تريدها.

فهل ستقبل الولايات المتحدة بهذه «السيناريوهات» وبهذه العروض وترفع الاصبع عن الزناد وتبقي على حشودها العسكرية كما هي عليه الآن حول العراق لتضمن أي حل على أساس أحد هذه «السيناريوهات» التي من بينها تنحي صدام حسين عن مواقع المسؤولية وبقاؤه وأقاربه في السلطة..؟!

كل شيء جائز، لكن ما نراه وما نسمعه يوصلنا إلى استبعاد أن تقبل الولايات المتحدة بمثل هذه «المساومات»، وبخاصة بعدما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وبعدما مرّ الوقت الذي كان الالتقاء في منتصف الطريق بين صدام حسين وجورج بوش الأب في السابق والابن حالياً ممكناً.

لم يقبل بوش بتحدي صدام حسين، بأن يتبارزا كلامياً أمام سمع العالم ونظره، ولم يكن منتظراً أن يقبل فالأميركيون الذين يتحدثون بلغة الأرقام وموازين القوى، لا يتقنون فنون البلاغة العربية وليس لهم معرفة بسطوة لغة الضاد، ولهذا فقد كان ردهم على هذا العرض بالقول إن عرض الرئيس العراقي تنقصه الجدية.