السودان وأربعة أشهر حاسمة

TT

بدا مبعوث منظمة «الايقاد» الخاص للسودان الجنرال لازاروس سيمبويا واثقا وهو يتحدث انه تم تحديد نهاية حزيران (يونيو) المقبل موعدا لابرام اتفاقية السلام في السودان. وعندما سألته عن مغزى وابعاد تحديد هذا الموعد بالذات، اجاب ان هدنة وقف اطلاق النار في منطقة جبال النوبة، التي تجدد كل ستة اشهر ينتهي العمل بها في هذه الفترة، الامر الذي يتيح الفرصة لبدء فترة الاشهر الستة للاعداد للفترة الانتقالية التي سيبدأ العمل بها مطلع العام المقبل.

التوقيت الذي حدده الجنرال يتفق مع المهلة-الانذار التي طرحها المبعوث الامريكي السناتور السابق جون دانفورث الشهر الماضي، عندما اوضح ان واشنطون ستنفض يدها عن الوساطة في القضية السودانية ما لم يتم التوصل الى اتفاق خلال فترة ستة اشهر. وربما لهذا السبب تشهد العاصمة السودانية تكثيفا للحضور الديبلوماسي الغربي على وجه التحديد. فالى جانب سيمبويا هناك المبعوثة الكندية للسلام مبينا جعفر، كما قامت باريس بتعيين مبعوث لها الى السودان، وهؤلاء بالطبع الى جانب المبعوث البريطاني السفير آلان قولتي الذي يقوم بزيارات مكوكية بين الخرطوم ونيروبي والقاهرة. فهل السودان على اعتاب تحقيق السلام اخيرا وبعد عقدين من الحرب الاهلية، وتعدد الوساطات بعد فشل الحلول السودانية المحلية؟

الجنرال سيمبويا يبدو واثقا من الاجابة اذ يضيف انه من البداية لم يقبل مهمة الوساطة مالم يكن متأكدا من النجاح. فترة الشهرين او ثلاثة المقبلين يمثلان فترة حرجة للغاية إذ ستتم فيها تحقيق الاختراق الاساسي الذي يسمح بابرام اتفاق السلام او تنتهي المهمة بفشل ماحق. ولدعم فرص النجاح يتجه الجنرال الى اتباع اسلوب التعتيم المقصود على ما تم انجازه في المفاوضات خاصة في قضيتي قسمة السلطة والثروة، كما انه لا يطلب من المفاوضين تحديد مواقفهم عبر اوراق مكتوبة التي يرى انها تساعد على تصليب المواقف، اذ يرفض كل طرف فيما بعد التزحزح عنها، كما تحدث عن انه يجري ممارسة قدر من الضغط المعقول على الطرفين، لكن ليس لدرجة تركيع احد الطرفين. ولوحظ مؤخرا ان بعض الدوائر المتعاطفة مع الحركة الشعبية بدات تنتقد مكتب الشؤون الافريقية التابع للخارجية الامريكية ورئيسه والتر كانستنير لانه يميل الى ممارسة ضغط اكبر على الحركة اكثر من ممارسته ضغوطا مماثلة على الحكومة.

ويرى هؤلاء ان واشنطون لم تتحرك بالقوة الكافية لادانة التحركات العسكرية للمليشيات المحلية المرتبطة بالحكومة وادت الى اشتعال في الموقف الشهر الماضي وهو ما سعى الاتفاق الاخير مطلع هذا الشهر لتفعيل آلية وقف اطلاق النار الى معالجته. اشتباكات الشهر الماضي العسكرية اعطت احساسا بأن الحكومة يمكن ان تتملص من الاتفاقيات التي تقوم بتوقيعها، وهو ما سيجعل المتابعة اكثر دقة عبر المراقبين وذلك لتحديد المسؤول عن اي خرق في اتفاق وقف العدائيات.

هذه المرة لن يكون الامر مجرد تحديد وتسمية الطرف الاقل حرصا على السلام، وانما ستكون هناك تبعات متمثلة في التقرير الذي يفترض ان ترفعه الادارة، عبر وزير الخارجية، الى الكونجرس في الاسبوع الاخير من نيسان (ابريل) المقبل لتحديد الطرف المسؤول عن اجهاض السلام المنتظر في السودان، وهو ما يفتح الباب لتطبيق عقوبات على الحكومة السودانية فيما اذا اتضح انها الطرف الملام. لكن في نفس الوقت فان لهفة واشنطون على تحقيق الاتفاق قد تدفع الطرفين الى محاولة استخلاص اكبر قدر ممكن من النقاط لصالحهما.

تهيئة الاجواء التي بدأت بالهدنة في منطقة جبال النوبة قبل اكثر من عام، اعقبها اتفاق وقف العدائيات اواخر العام الماضي، وهو ما تم تنشيطه عبر المراقبين، الامر الذي جعل السودان يتمتع بهيكل لوقف اطلاق النار ونشر تدريجي لمناخ توقف فيه القتال الى حد بعيد. ومع ان اتفاق وقف العدائيات محدد بنهاية الشهر المقبل، الا ان التقدير الراجح انه سيتم تمديده. وفي حديث الجنرال سيمبويا انه من الصعب دفع سكان جبال النوبة الى القتال مرة اخرى بعد تمتعهم بهدنة ووقف للحرب خلال فترة عام استطعموا فيها طعم السلام، لكن ذلك لا يلغي الحاجة الى البحث في الجذور التي دفعتهم الى حمل السلاح ابتداء.

وهكذا يبدو ان وقفا رسميا لاطلاق النار بالامر الواقع ومع وجود مراقبين اجانب في طريقه الى التحقيق على امتداد السودان ولاول مرة منذ اشتعال الحرب الاهلية. ومع ان اتفاق وقف اطلاق النار الاخير فرض على الحكومة التراجع عن بعض المناطق التي كانت تعمل فيها، الا انه سيؤمن لها وبسلام استمرار النشاط على الساحة النفطية التي شهدت تطورات مهمة في مربعي (6) و (7) الذين تنشط فيهما بصورة رئيسية شركة النفط الوطنية الصينية الى جانب شركات اخرى.

مربع (6) الذي يغطي منطقة ابوجابرة وشارف، التي اكتشفت فيها شركة شيفرون النفط بكميات تجارية في السودان لاول مرة، تقع في الشمال، وبالتالي تبدو خارج مناطق نشاط الحركة الشعبية. اما مربع (7) فيقع في منطقة اعالي النيل جنوب شرقي البلاد، وهي بالتالي اقرب الى الشمال واكثر امانا ويزيد من تأمينها اتفاق وقف العدائيات المعدل. وفي معلومات الكاتب انه تم حفر بئرين حققتا تدفقا بمعدل عشرة آلاف برميل يوميا ولم يتم الاعلان عنهما رسميا بعد.

واذا كان الاحتمال كبيرا لابرام اتفاق سلام، فان السؤال اذا كان مثل هذا الاتفاق سيصمد ويفتح الطريق امام تحول سلمي وديمقراطي في السودان ينهي ازمة الحكم فيه ويتيح الفرصة لاستغلال ثروات البلاد. تعقيدات الازمة السياسية خاصة ما يتعلق بفكرة تطبيق حق تقرير المصير ووضع المناطق المهمشة الى جانب استيعاب القوى السياسية الاخرى ليصبح الاتفاق ملزما لكافة اهل السودان، تمثل اكثر النقاط قابلية للاشتعال. ويزيد من تعقيد الموقف طول الفترة الانتقالية التي تمتد الى مدى زمني يستغرق ست سنوات.

واذا كان من السهل على الوسطاء الضغط هنا وهناك للتوصل الى نصوص مرضية وابرام اتفاق سلام نهائي، فان الممارسة على طول الفترة الانتقالية ستمثل احد اكبر التحديات للوسطاء والقوى السياسية السودانية، فحتى اذا تم التجديد للرئيس الامريكي جورج بوش لدورة رئاسية ثانية فانه لن يكون بالبيت الابيض في نهاية السنوات الست ليرمي بثقله خلف تنفيذ الاتفاق. نفس الشيء ينطبق على بقية الوسطاء الآخرين، الامر الذي يعيد الكرة الى الساحة المحلية وذلك على امل ان ينجح مناخ السلام والتعرف على الآخر عن قرب في سيادة القناعة ان التعايش بين طرفي البلاد امر ممكن في بيئة ديمقراطية.