حرب ملتبسة!

TT

تضعنا الحرب المرتقبة على الجبهة العراقية، أمام مفارقة مثيرة مهما كانت الخلفية التي تحدد مواقفنا: الجميع يستشعر ان المواجهة قريبة وشيكة محتومة، ولا احد يعرف على وجه الدقة اهدافها ومراميها الحقيقية، ومن ثم طابع الالتباس الجلي الذي يسم الحدث المرتقب ويفسر التباين الواضح بين المواقف والرؤى، ليس فحسب داخل الدوائر الرسمية، وانما داخل القاعدة الشعبية العريضة في العالم برمته.

ومن البديهي ان الادارة الامريكية نفسها التي تحضر للحرب بصفة شبه انفرادية لم تساعد في تصريحات وخطب وتلميحات اركانها على ايضاح الصورة، بل ان الخطاب الامريكي الرسمي القى ظلالا كثيفة على الموضوع بالتباين الصارخ في تحديد توجهات وغايات الحرب.

فأحيانا تقدم بصفتها الفصل النهائي من حرب 1991، التي لم تحقق كامل اهدافها بعد تحرير الكويت، وكان من المفروض ان تسقط النظام الذي تسبب في العدوان والمحنة، باعتبار ان تنحية الرئيس صدام شرط لا غنى عنه لجلب الاستقرار والأمن للمنطقة بعد ثلاث وعشرين سنة من الحرب المتواصلة. ولا شك في ان هذا المسوغ يجد آذانا صاغية في منطقة الخليج العربي، وان كان الشك يظل قائما في اهداف الاستراتيجية الامريكية في هذا الهدف بعينه، باعتبار تجربة 1991 والظروف الغامضة التي تم فيها اعلان نهاية الحرب.

وأحيانا أخرى تقدم الحرب وكأنها بداية تحول جذري في المنطقة الشرق أوسطية بكاملها، مما يعني ادخال تغييرات نوعية على طبيعة الانظمة الحاكمة، وعلى السياسات الاقليمية. ويذهب البعض الى حد الرهان على رسم امريكي لخارطة شرق أوسطية جديدة تتغير فيها الانظمة وحدود الدول والقوميات، والسيناريوهات كثيرة تمتلئ بها أعمدة وملفات الصحف.

ولا شك في ان بعض تصريحات المسؤولين الامريكيين تلمح لهذا الهدف، كما ان جانبا من الرفض الاوروبي للانسياق في منطق الحرب، راجع لهذا التوجس من سايكس ـ بيكو جديدة تتحكم من خلالها الولايات المتحدة في منطقة حيوية بالنسبة لتشكل النظام الدولي، ولها الاثر البالغ على توازناته الهشة. ومن الواضح ان الموقف العربي الرسمي الرافض للحرب يستشعر ويتوجس هذا المشهد المرعب.

ويذهب الكثيرون ومن بينهم المفكرون الاستراتيجيون الى ان الحرب المرتقبة هي حرب من أجل النفط، وان رهان الطاقة هو الرهان الاساس في المواجهة القائمة بين الاقطاب والتكتلات الاقتصادية للتحكم في ديناميكية العولمة. ويذهب من هذا المنظور «جاك أتالي» المفكر والسياسي الفرنسي المعروف، الى ان كل حروب القرن العشرين المنصرم كانت حروبا من أجل الطاقة. فالولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الاولى للنفاذ الى مصادر الطاقة الشرق أوسطية. وفي عام 1928 تشكل تكتل الشركات النفطية السبع، فحدثت ازمة 1929، التي هيأت مناخ الحرب العالمية الثانية، كما ان اليابان هاجمت بيرل هاربور نتيجة للحصار النفطي الذي واجهته، وللسبب ذاته اتجه هتلر لستالينغراد للوصول الى منابع البترول القوقازية. ولقد سمحت اتفاقية يالطا للولايات المتحدة بالنفاذ الى مصادر الطاقة الشرق أوسطية التي كانت ساحة مواجهة رئيسية خلال الحرب الباردة واليوم يلاحظ اتالي، ان حرب العراق المرتقبة تندرج في الهم ذاته، وترتبط وثيق الارتباط بالازمات الآسيوية في الشيشان وافغانستان، حيث طريق منابع النفط في آسيا الوسطى.

فالعراق هو البلد الوحيد في العالم الذي يحتوي ثروات نفطية هائلة غير معروفة، سهلة الاستخدام، تصل في أقل التقديرات الى 113 مليار برميل وربما 3 أضعاف هذا العدد، مما يوفر للعالم عشر سنوات اضافية من الاستهلاك بحسب معدل الاستهلاك الحالي. ولذا فالولايات المتحدة بحاجة اكيدة، في ظل الازمة الاقتصادية العاتية التي تعرفها حاليا، الى السيطرة على هذه الثروة النفطية، وذلك هو العامل نفسه، من هذا المنظور، الذي يفسر المواقف الاوروبية والروسية الرافضة لحرب تقصيها عن مواقعها الحالية في الساحة العراقية.

بيد ان الرؤية الامريكية الاكثر ورودا في الخطاب السياسي والاعلامي السائد هي ان الحرب القادمة هي حرب ضد الارهاب، التحدي الاستراتيجي الجديد الذي يستهدف نمط الحياة الامريكي، بل وطبيعة الحضارة الغربية نفسها، حسب عبارات الرئيس بوش، التي استخدمها بعد زلزال 11 سبتمبر.

ولئن كانت الادارة الامريكية لم تستطع بعد ان تبين خيوط الوصل بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة المسؤول عن ضربات نيويورك وواشنطن، الا انه من الواضح ان التأييد الذي تلقاه الحرب في الشارع الامريكي عائد الى هذا الربط.

فحرب العراق المرتقبة، هي بهذا المعنى، «حرب تعويض» بحسب عبارة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي اصدر مؤخرا كتابا طريفا ولاذعا بعنوان «قطاع الطرق» يذهب فيه الى ان الولايات المتحدة مرت بعد نهاية الحرب الباردة من نموذج سباق الردع النووي الى الحرب ضد «الدول الخارجة على القانون» Rogue States. وبعد احداث 11 سبتمبر تحولت المواجهة الى «المجموعات الخارجة على القانون» العصية على التصنيف والضبط، ومن ثم اسقاط هذه الصفة على دول بعينها هي «محور الشر» لتعويض الاخفاق في حرب مع عدو لا سمات ولا موقع له (أي الارهاب العالمي). والمفارقة هنا،

ان الولايات المتحدة تتحول بالضرورة، في مثل هذه الحرب، الى اكبر دولة خارجة على القانون في سعيها للاستفراد بحرب غائمة ضد عدو غير محدد، لا هوية له. ان هذا التحول راجع الى منطق الحرب الجديدة والتحدي الذي يطرحه الارهاب في عالم لم تعد فيه الدولة القومية التقليدية اللاعب الاوحد في رهان القوة والعنف.

وكما أوضح المفكر الامريكي المعروف جوزيف نياي، في كتابه الاخير «مفارقة القوة الامريكية»، فإن ما نشهده، راهنا، هو «خصخصة الحرب»، بفعل عوامل تكنولوجية واقتصادية وثيقة الصلة بطبيعة العولمة وآثارها على الكيانات القومية.

فالتقدم الصناعي والاقتصادي ادى الى مضاعفة فاعلية العديد من الانظمة الحيوية مثل النقل والاتصال والطاقة، ولكنه في الوقت نفسه جعلها اكثر هشاشة وضعفا، فهي عرضة للهدم وللارهاب بالنظر لاتساع انتشار التقنيات الجديدة، وعلى رأسها تقنيات الاتصال وادوات الدمار الشامل المحدودة التكلفة. كما ان خلفيات المجموعات الارهابية وشبكاتها التنظيمية قد تغيرت. ففي القرن العشرين كانت هذه المجموعات تصدر عن اهداف سياسية وايديولوجية ومرتبطة برهانات جيو سياسية ذات صلة بالصراع القطبي، اما اليوم، فإن المجموعات الراديكالية تصدر في الغالب عن خلفيات دينية وقومية مما يعطيها زخما كثيفا وعنيفا لا محدودا. ويخلص نياي، في كتابه، الى ضرورة تجاوز نموذج الحرب التقليدية في مواجهة الارهاب، الذي يقتضي استراتيجيات وخططا جديدة غير مسبوقة.

ان الحرب القادمة اذن، لا يمكن ان تقضي على مصادر الارهاب، وقد تزيدها حدة وكثافة بما تخلفه من خسائر ومصائب انسانية تكون قاعدة موضوعية لتأجج العنف الأعمى.

ومع اقتراب مشهد الحرب التي دخلت بالفعل مرحلتها التنفيذية (على رغم المحاولات اليائسة لتفاديها عربيا ودوليا) يبدو ان مراكز القرار الامريكية تراهن على ان المعركة ستساعد في ايضاح صورة مواجهة تلتبس اهدافها وغاياتها، وفي كل الاحوال ستكون الحرب المرتقبة بدون شك ضربة قاصمة لمعادلة اقليمية استنفدت اغراضها ولم تعد تلائم من المنظور الامريكي مقتضيات الوضع الدولي الجديد.