تركيا اليوم تذكر بما كان عليه وضعها بعد الحرب العالمية الأولى

TT

هددت واشنطن انقرة انها ستخسر مليارات الدولارات الموعودة بها، اذا لم تسمح بدخول 62 الف جندي اميركي الى اراضيها لفتح جبهة شمالية عند نشوب الحرب ضد العراق. تأكيد جديد على ان لا حلفاء ثابتين للولايات المتحدة بل مصالح ثابتة.

ليس معروفاً ما اذا كانت واشنطن مقتنعة بجدوى تهديدها، خصوصا انها لم تحافظ على وعودها السابقة بمليارات الدولارات لتركيا خلال حرب الخليج الأولى.

يقول محدثي السياسي التركي ان مشكلة حزب العدالة والتنمية بالنسبة الى الأزمة العراقية قد تكون في عدم خبرته في السياسة الخارجية ونقصا في الاشخاص الذين يقدمون النصيحة الثمينة، فهو رأى في البداية انه يريد عدم اللجوء الى البيروقراطية واسلوب المؤسسات القديمة، واعتبرها غير فعالة، وقرر بالتالي ابتكار سياسة خاصة به، لكن لحسن الحظ، عاد الحزب عن خطئه، وهذا يذكرني برئيس الوزراء الراحل تورغوت اوزال، الذي ارتكب الخطأ نفسه تجاه الأزمة نفسها، عندما تسلم رئاسة الحكومة، وعاد ليصحح الخطأ لمصلحة تركيا، لكنه توفي.

ان المشكلة الرئيسية لحزب العدالة والتنمية هي تخبطه في ازمة تركيا المسلمة في مواجهة العراق المسلم في حرب غير شعبية ومرفوضة، مع العلم ان حزب العدالة والتنمية وصل الى السلطة بأغلبية من اصوات المتدينين، رغم انه منذ تسلمه الحكم حاول تخفيف هذا العنصر في الحكومة. ويعرف حزب العدالة والتنمية ان تركيا ستخسر في هذه المعادلة، لذلك وكما يقول محدثي، كان السؤال: كيف نربح خلال الخسارة؟ لهذا صارت التعويضات المالية مقابل الخسارة المتوقعة، همَّ الحزب والحكومة. وقد ناقش الوزراء مطولاً، مسألة الوعود الشفهية الاميركية التي اغدقتها الولايات المتحدة عام 1991 كتعويض لتركيا عن خسائرها التجارية والاقتصادية والسياحية، بسبب حرب الخليج، التي بلغت ما يزيد عن 40 مليار دولار، من دون ان تفي بأي منها.

وقد اصرت حكومة عبد الله غول على اتفاقيات مكتوبة وموقعة من قبل الدولتين. وجرت مفاوضات معقدة وصعبة على الاصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية ولأن «الشيطان في التفاصيل»، كما يقولون، لم يكن من السهل الاتفاق خصوصاً بعدما صارت الخارجية الاميركية تحدد الوقت النهائي تلو الوقت النهائي، ثم تم تسريب التهديدات المبطنة الى وسائل الاعلام، غير ان حزب العدالة والتنمية اصر على طلباته الحساسة التي وافقت عليها واشنطن، انما ما معنى الموافقة اذا لم تكن ملزمة في المستقبل؟

وكانت احدى الصحف التركية نشرت كاريكاتوراً يصور تركيا كراقصة هز بطن تجمع الدولارات الاميركية تحت غلالة رقصها. واقول لمحدثي، ان تركيا اتهمت بأنها تساوم على رشاوى مالية مقابل تعاونها العسكري، فبدت كتاجر السجاد، فيقول انه نظراً للتاريخ الحديث 1991، كان من حق حزب العدالة والتنمية ان يطالب بمبالغ ضخمة كتعويضات او ضمانات لخسائر في الاقتصاد قد تسببها الحرب. ان تركيا لا دخل لها في الصراع العراقي، انما الخطأ الذي وقع هو تسرب طلبات التعويض المالي الى الاعلام، وقد يكون الهدف استعمال الرأي العام كوسيلة ضغط. لقد كان هذا تصرفاً غير ناضج، وظهر وكأن تركيا تنشر غسيلها الوسخ في الشارع، وقد دفع هذا بالاعلام الدولي لانتقاد تركيا على انها جشعة وتبيع دعمها مقابل المال. وتذكر الاعلام الغربي تصريحا لرئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب اردوغان قال فيه: «انا رجل اعمال ناجح واعرف كيف اساوم بطريقة جيدة وناجحة»، لقد اعطى هذا الامر صورة بشعة وغير ضرورية عن تركيا، في حين انه ليس من الخطأ ان تطالب الدول بتعويضات، لكن المفاوضات المتعلقة بالاموال تجري عادة وراء ابواب مغلقة.

على كل، لم يسلم رجب طيب اردوغان، الذي يستعد لخوض انتخابات نيابية في التاسع من الشهر الجاري، يخوله فوزه فيها كنائب ان يتولى منصب رئاسة الحكومة، من الانتقادات لانه لم يعمل على اقناع نواب حزبه ـ 363 نائباً ـ بالتصويت للمصادقة على دخول القوات الاميركية الى تركيا، اذ صوت 264 نائباً لمصلحة الدخول مقابل 250 نائباً ضده. وقد قال ان القرار يؤكد الطابع الديمقراطي لحزبه، لكن منتقديه قالوا انه كان عليه ان يختبر ديمقراطية حزبه في قوانين محلية وليس في مسألة تتعلق بالامن القومي التركي.

لقد كانت الاصوات المعارضة للحرب في تركيا عديدة ومرتفعة وظل قادة حزب العدالة والتنمية صامتين، الى درجة اتهامهم بالتواطؤ مع المتظاهرين بدل ان يشرحوا للرأي العام اهمية وضع نهاية لنظام تعسفي مثل النظام العراقي. ويتخوف البعض من ان عدم موافقة انقرة على استقبال القوات الاميركية سيفقدها اي دور في المستقبل، خلال الحرب او بعدها. واتهم هؤلاء بعض نواب الحزب بأنهم وقعوا تحت تأثير نجم الدين اربكان رئيس حزب العدالة والرفاه سابقا الذي يخطط لتجزئة حزب العدالة والتنمية.

يقول محدثي، انه بعد ما كان التصويت يوم السبت ديمقراطياً، ولا نعرف متى سيجري التصويت الاخر، فقد بدأت اصوات تطالب الحكومة بابلاغ المواطنين الاتراك عن الطريقة التي ستعالج فيها القضايا الحساسة التي كانت تخطط لمعالجتها من خلال مشاركتها الاميركيين في الحرب ضد العراق.

وكانت الحكومة التركية تتخوف من ان اي عملية عسكرية ضد العراق قد تشجع وتقوي اكراد العراق من اجل العمل على اقامة دولتهم المستقلة التي قد تعيد الحياة الى «الارهاب» التركي في جنوب شرقي الاناضول، وكانت الحكومة تخطط لحماية التركمان في شمال العراق عبر التنسيق مع الولايات المتحدة التي وافقت على ان يكون لتركيا ـ مستقبلاً ـ رأي في اعادة بناء العراق، سياسياً واقتصادياً.

وكان المسؤولون الاتراك والاميركيون اتفقوا على التعاون العسكري بما فيه دور عشرات الالاف من القوات التركية في شمال العراق، كل هذه الاتفاقيات المبدئية معرضة الآن للانهيار. ويقول السياسي التركي، هناك تخوف في انقرة، من اقدام اميركا على الحرب من دون تركيا عندها قد لا تسمح واشنطن ببقاء عسكري تركي في اي مكان في العراق، ولن تهتم بسؤال انقرة عن رأيها في كيفية بناء العراق الجديد.

مصدر تركي آخر قال: ان الاسلوب الذي اعتمدته اميركا معنا سبب لنا جرحين، الأول: اننا دولة تساوم، بنظر اميركا والمجتمع الدولي، والثاني: اننا قوة احتلال بنظر المعارضة العراقية والشعب العراقي كله، وغلب علينا الشعور بأننا دولة مدجنة من قبل دولة اخرى، على الرغم من انها حليفتنا.

ان تركيا الآن تواجه وضعاً شبيهاً بالوضع بعد الحرب العالمية الاولى، حليفتها الآن هي اميركا بدل المانيا، وهناك الآن جمهورية حديثة تعاني من وضع اقتصادي صعب بدل السلطان العثماني الذي كان عاجزاً عن دفع رواتب جنوده.

على كل، كما قسمت الحرب على العراق الحزب الحاكم في تركيا وكشفت عجزاً فيه الى درجة ان الامور لن تكون كما كانت عليه سابقاً، فقد اعاد عدم موافقة البرلمان التركي على القرار، الخلافات الاميركية الى السطح، واتهم مسؤولون في البنتاغون وزارة الخارجية بأنها وراء هذه الفوضى التي تبدت في تركيا، وانها سربت المساومات المالية التركية للضغط على انقرة. ورأى هؤلاء ان الذي اثار حنق النواب الاتراك كان استثناء التركمان من القيادة الجديدة للمعارضة العراقية، اذ تم ابلاغ ممثل التركمان، الذين تدعمهم تركيا، بأنه سيكون لاحقا في احدى اللجان، ورأى احد المسؤولين في وزارة الدفاع الاميركية، ان الخارجية الاميركية «ركّبت» هذه القيادة، فهي بنظره «تتعاطف بحرارة مع المجلس الاعلى للثورة الاسلامية ـ تدعمه طهران ـ فاختارت ممثلاً عنه في القيادة وتريد المحافظة على رضا السعودية فاختارت احد الذين تدعمهم السعودية، لكنها طعنت حليفنا تركيا في الظهر وابعدت التركمان!».

بسبب الموقف التركي الجديد، قد تتأجل الحرب الشاملة على العراق لمدة اسبوعين فقط، ولكنه لن يخفف اطلاقاً من كثافة الغارات الجوية الاميركية ـ البريطانية او يعرقل عمليات القوات الخاصة التي بدأت في عمق الجنوب والغرب العراقيين.