نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة.. وما جرى كان لا بد منه!!

TT

«لا تنه عن خلق وتأتي مثله»، فغضب الاشقاء العراقيين على دولة الامارات العربية، لاقتراحها تنحي صدام حسين عن الحكم، لانقاذ الشعب العراقي من مصيبة قادمة مدمرة، مبرر لو ان غزو الكويت في العام 1990 لم يقع، ولو ان هذا النظام العراقي نفسه لم يتدخل في شؤون سوريا والسعي لاطاحة نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد بالقوة، ولو انه لم يتدخل في شؤون لبنان وفي الشأن الفلسطيني عندما كان يقود جبهة الرفض ضد ياسر عرفات.

ذروة التدخل في شؤون دولة عربية مجاورة وصغيرة هو احتلالها بالدبابات والغاؤها من الوجود. ولو ان القيادة العراقية التي لديها حساسية مفرطة تجاه التدخل في شؤونها الداخلية اتبعت هذه الحكمة في عام 1990 واخذت بها فإن ما لا نقاش فيه ولا جدال حوله ان كل هذه المآسي المتواصلة لأكثر من اثني عشر عاما، عراقيا وعربيا، لما حدثت نهائيا وعلى الاطلاق.

اكثر من مرة كرر الرئيس صدام حسين وهو في ذروة حربه مع ايران، التي كانت ايضا تدخلا صارخا في شؤون دولة اسلامية «شقيقة»، انه ضد ان تتدخل دولة عربية في الشؤون الداخلية لدولة عربية اخرى، وكانت المفاجأة ان القوات العراقية اجتاحت دولة الكويت كلها وان القيادة العراقية التي تشكو الآن من مبادرة دولة الامارات وتعتبرها تدخلا في شؤون العراق الداخلية ألغت «بجرة قلم» دولة قائمة وعضوا في الجامعة العربية والامم المتحدة واطلقت عليها اسم المحافظة التاسعة عشرة.

لم تتذكر القيادة العراقية ما فعلته في عام 1990 وجاء رد فعلها على اقتراح دولة الامارات عنيفا وحادا واتخذ طابع الشتائم. ويقينا لو ان الظروف ليست هي هذه الظروف، والوضع ليس هو هذا الوضع لتحركت الدبابات على الفور في اتجاه الجنوب لالغاء دولة عربية مستقلة باسم الوحدة العربية، وبمبرر ان العرب بعد طول فرقة وانقسام رزقهم الله «بسماركهم» الذي سيجمع شملهم ويعيد اليهم وحدتهم كما اعاد بسمارك الوحدة لالمانيا التي كانت موزعة على كيانات متحاربة ومتناحرة وصل عددها الى نحو ستين كيانا.

هناك الآن ازمة طاحنة سببها او مبررها الغزو الذي تعرضت له الكويت عام 1990، والذي كان اكثر من تدخل في الشؤون الداخلية لدولة عربية شقيقة، ولقد بات مؤكدا انه لا حل لهذه الازمة الا بخيارين لا ثالث لهما، فإما ان يتخلى بوش عما هو عازم عليه ويسحب جيوشه الى مواقعها السابقة واما ان يتنحى صدام حسين ويفتدي شعبه بنفسه ويجنب بلده دمارا سيضاف الى كل الدمار الذي تعرض له بسبب التدخل في الشؤون الداخلية لدولتين مجاورتين الاولى هي ايران والثانية هي الكويت.

وللسعي لايجاد حل لهذه الازمة، بل للسعي الى تبرئة النفس عقد العرب قمة طارئة وعادية، في الوقت نفسه، وكان الواضح والمؤكد سلفا ان هذه القمة ستختفي خلف اصبع يدها وانها ستتحاشى رؤية الحقيقة والحقائق وستصدر بيانا تكرر فيه ما كانت قدؤ قالته كل الدول العربية وما يقوله العالم بأسره وهو رفض الحرب واستبدالها بايجاد حل سلمي يجنب العراق والمنطقة والعالم ويلات هذه الحرب.

كل الدول العربية كانت تعرف، قبل هذه القمة الاخيرة، معرفة اليقين ان الحرب غدت مؤكدة وان الرئيس الاميركي ذاهب الى نهاية الشوط وان المبادرة الوحيدة التي من الممكن ان تقطع الطريق على هذه الحرب، التي ستكون مكلفة ومدمرة حسب كل التقديرات، هي ان يتنحى صدام حسين عن مواقع المسؤولية.

ان كل الدول العربية، بما في ذلك العراق، تعرف هذه الحقيقة المرة معرفة اكيدة. وان كل هذه الدول تعرف ان بيان القمة الاخيرة وكل البيانات السابقة لم ولن تلامس اذني الرئيس بوش. وبهذا فإنه كان منتظرا من القمة ان تضع الاصبع على موطن الألم حتى وان اغضب هذا «الاشقاء العراقيين»، كما كان منتظرا ان تنصب كل المعالجات على كيفية التوصل الى صيغة للحل يقبل ويقتنع بها جورج بوش ويرضى بها الرئيس العراقي وان على مضض.

لا يوجد حاكم في الكرة الارضية كلها يقبل بالتنحي عن مواقع المسؤولية عن طيب خاطر، فهناك من تلزمه وتحكمه القوانين والاعراف وهناك من تلزمه موازين القوى والمستجدات الطارئة وهناك من تجبره على التنحي وحدات المغاوير وجنازير الدبابات.

وبالنسبة للرئيس العراقي فإن الخيارات باتت ضيقة جدا امامه، فإما الحرب واما التنحي، وهنا فلعل ما لا نقاش فيه هو انه اذا كانت هناك ضمانات بإمكانية هزيمة اميركا وحلفائها فلا يجوز الحديث حتى مجرد الحديث عن الاستقالة والتنحي اما اذا كانت موازين القوى لا تسمح بالتفاؤل حتى ولو بالحدود الدنيا فإن الخيار يصبح بالنسبة للعراقيين والعرب هو ان العراق اهم من الافراد واهم من القادة والرؤساء، وهو ان الشعب العراقي العظيم يستحق تضحية حتى وان كانت بمستوى تنحي رئيس حاز في انتخابات «حرة وديمقراطية»!! على مائة في المائة من اصوات هذا الشعب.

ان الاعتقاد الجازم هو ان دولة الامارات العربية عندما تقدمت بمبادرة تنحي الرئيس العراقي فإنها استندت الى هذه المعادلة، اي اما صدام واما الحرب. وانها تعرف ان جميع العرب يفضلون الخيار الاول على الخيار الثاني رغم انهم لا يقولون ذلك علنا ويحبسون قناعاتهم وامانيهم في صدورهم.

لو ان هناك خيارا آخر غير خيار الحرب وغير خيار اصدار بيانات تبرئة الذات وشتم الامبريالية الاميركية «اللعينة» لكان على القمة العربية ان تعلنه وتواجه الاميركيين والعالم به.

قد لا يكون هناك خلاف على ان كل عربي من المحيط الى الخليج يعرف ان بيان القمة الذي يرفض الحرب لن يقدم ولن يؤخر وان اللجنة التي شكلتها القمة لن تنجز اكثر من جولات سياحية، هذا اذا استطاعت ان تقوم بمثل هذه الجولات السياحية، ولذلك وبما ان العرب غير قادرين على تغيير مسار الاحداث وبما انه ليست لهم الرغبة حتى وان كانت لديهم القدرة ان يقفوا الى جانب صدام حسين كبنيان مرصوص، يصبح ان الخيار الوحيد الممكن هو الخروج بأقل الخسائر وهو معالجة موضوع تنحي الرئيس العراقي على اساس اقناع بوش بالتراجع عن الحرب واقناع القيادة العراقية بأن العراق وشعبه يستحقان ان يضحي القائد الاول بموقع المسؤولية.

كان بامكان رئيس وفد دولة الامارات العربية الى القمة الاخيرة ان يضع رأسه بين الرؤوس وان يختفي خلف اصبعه، كما اختفى الآخرون، لكن الجرأة الادبية التي تحلى بها الشيخ زايد جعلته يعلن ما يبطنه الآخرون ويقول كلمة الحق والحقيقة حتى وان كانت جارحة ومؤلمة ومرة.

لقد دخل العرب مع العالم كله قرنا جديدا وألفية ثالثة جديدة، لكنهم على خلاف كل ما تفرضه هذه الالفية الثالثة من انماط جديدة في التفكير والعلاقات بقوا حتى في مؤتمرات القمة يتحاشون المصارحة ومواجهة بعضهم بعضا بالحقائق. ولهذا فإننا نجد ان امراضنا في القرن العشرين انتقلت معنا الى القرن الواحد والعشرين، كما اننا نجد ان قادتنا وهم يتبادلون القبلات الحارة يصوب كل واحد منهم خنجره الى ظهر الآخر.

هذه هي حالنا، ولقد قلنا مرارا وتكرارا ان القادة العرب يذهبون الى القمة برؤوس مؤتلفة وقلوب مختلفة، ولهذا فإنه يجب اعتبار ان مبادرة الشيخ زايد وان تصدي الامير عبد الله بن عبد العزيز الى استهزاءات القذافي، وشطحاته وخلطه الجد بالهزل، بكل وضوح وحزم وحسم هما بداية اسلوب جديد في علاقات العرب بعضهم ببعض وهو اسلوب تفرضه المعطيات المستجدة في العالم كله في هذا القرن الجديد.

كان بامكان الشيخ زايد ان يلوذ بالصمت مثله مثل الآخرين فتستمر سياسة «اللفلفات والطبطبات» لكنه، وهو الذي لم تدفعه مصالح خاصة لا له ولا لدولته، وهو المعروف بأنه شيخ العرب الذي يجمع ولا يفرق والذي يعطي ولا يأخذ، القى بهذا الحجر في البركة العربية الآسنة ليؤسس لسياسة عربية جديدة اساسها المصارحة وقول الحقيقة حتى وان كانت هذه الحقيقة مزعجة ومرة.

وكان بإمكان الامير عبد الله بن عبد العزيز ان يواجه القذافي بمجرد ابتسامة سخرية على غرار ما كان يجري في كل القمم العربية التي حضرها «الأخ العقيد» لكنه اي الأمير عبد الله، بادر الى تلك المواجهة الساخنة بعد ان شعر بأن الكيل طفح وانه لا بد من الآن فصاعدا ان يقال للأعور «اعور في عينك» كما انه لا بد من وضع حد للذين استمرأوا النظر الى الآخرين باستعلاء والذين يقذفون الناس بالحجارة وبيوتهم من زجاج.

لم يعد من الممكن، وقد وصل الوضع العربي الى ما وصل اليه، الاستمرار بالاساليب السابقة عندما كانت المصارحة غائبة وعندما كان قول الحقيقة لا مكان له ولعل ما يجب اخذه بعين الاعتبار ان ما جرى في القمة العربية الاخيرة هو نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة فمن الآن وصاعدا يجب وضع النقاط على الحروف ويجب ان لا يبقى فرسان الجمل الثورية والافعال القليلة يصولون ويجولون ويقدمون انفسهم لشعوبهم بصور تختلف عن صورهم وراء الابواب المغلقة.

قال أحد المسؤولين العراقيين ردا على مبادرة دولة الامارات العربية ان ما جاء في هذه المبادرة قد يدفع العراق الى المطالبة بتنحي الشيخ زايد عن مواقع المسؤولية، لكن ما لم يتذكره هذا المسؤول انه لا مجال للمقارنة في هذا الصدد فالشيخ زايد لم يتسبب في مثل الازمة الاقليمية والعربية والعالمية الطاحنة وهو لم يحتل دولة شقيقة مجاورة ثم هو لم يوصل شعبه الى ما وصل اليه الشعب العراقي ولم يرَ منه العرب سوى الخير والمساندة في الاوقات العادية وفي اوقات استفحال الشدائد.