حان وقت الوضوح

TT

بدأت ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش العد التنازلي لانطلاق الحرب ضد العراق رغم رفض البرلمان التركي السماح للقوات الاميركية بدخول شمال العراق عبر اراضي تركيا. فقد حان الوقت لأن يفسح فشل الدبلوماسية الاميركية الطريق أمام استراتيجية لحرب تحرير العراق.

الوضع التركي المعقد يوضح لحظة التغيير التي باتت تفرض نفسها، اذ ان الوقت لم يعد مناسبا للدبلوماسيين الاميركيين لمحاولة الضغط على تركيا او اغرائها بغرض تغيير التصويت او لتوجيه اتهامات مضادة او الثأر من الموقف التركي. ما يجب ان يحدث ينبغي ان يركز بالدرجة الاولى على التأكيد على سير الولايات المتحدة قدما في موقفها وان تلفت نظر السياسيين الاتراك الى ضرورة التفكير في العواقب التي قد تترتب على موقفهم. كما ان على واشنطن ان تكون في نفس الوقت واضحة تماما مع الجنرالات الاتراك بأن توضح لهم أنهم سيدفعون ثمنا غاليا اذا ما نفذوا تدخلا من جانب واحد في شمال العراق عندما تبدأ الحرب.

المتابع لتصريحات بعض مسؤولي الادارة الاميركية يلاحظ بوضوح ان واشنطن اوضحت لأنقره مسبقا ان تدخل القوات التركية في شمال العراق سيكون امرا غير مقبول، فيما يرى مسؤولون آخرون ان يجري التعامل بصورة اكثر صرامة ووضوحا مع الجانب التركي، خصوصا ان الحرب باتت وشيكة.

دبلوماسيو الامم المتحدة يرون من جانبهم ان الوضع بات ملحا، فقد علق مبعوث رفيع قائلا ان الأزمة الآن باتت تتعلق بصورة اكبر بصنع القرار في الولايات المتحدة وليس بتقارير بليكس المتبقية، أي ان السلطة تحولت من مجلس الامن الى العواصم.

بعض المراقبين يعتقدون ان القادة العسكريين الاميركيين كانوا مترددين صيف العام الماضي لكنهم اصبحوا اكثر تصميما خلال فصل الشتاء، اما الآن فهم يريدون ان يصدر قرار ببدء الحرب وإنهائها بأسرع ما يمكن قبل ان يصبح الوضع الدولي المرتبك حاليا اكثر فوضى وأقل استقرارا.

يتضح فشل الدبلوماسية الاميركية في تزويد بوش ببديل عملي للوضع الحالي، اي خوض الحرب وسط معارضة الرأي العام وبعض الدول الحليفة. اما نتيجة تصويت البرلمان التركي على استخدام اراضي تركيا لعبور القوات الاميركية الى شمال العراق، فتعتبر دليلا على فشل اميركا كقوة عالمية هائلة في الحصول على تأييد من دولة حليفة في قضية حاسمة وحيوية، اذ توحدت المعارضة العلمانية وجناح منشق على الحزب الحاكم ذي التوجه الاسلامي بالاضافة الى جنرالات الجيش التركي ووجهوا هزيمة محرجة لرئيس الوزراء عبد الله غول.

موافقة رئيس هيئة الاركان التركي حلمي اوزكوك يوم الثلاثاء الماضي على استخدام القواعد التركية جاءت متأخرة، علما بأن ضباطا آخرين حالوا قبل ذلك دون اتخاذ موقف موحد كان من المحتمل ان يكون حاسما لموافقة البرلمان.

ويقول ناقدون لموقف وزير الخارجية الاميركي، كولن باول، ان السبب في تعرض الرئيس بوش لهذه المشاكل يعود الى استراتيجية باول القائمة على اساس التوجه الى الامم المتحدة للحصول على قرار «فرصة اخيرة» من مجلس الامن، إلا ان باول حصل على الحد الادنى الذي يحتاجه بوش لخوض حرب ضد العراق، فهذه الحرب تدور بالدرجة الاولى حول رفض العراق الانصياع لقرار مجلس الامن حول نزع اسلحة العراق المحظورة حتى الآن.

الدول لا تتوجه الى الحروب من اجل «المصداقية» او مثل هذا النوع من التجريد، فتكلفة الحرب لا علاقة لها بالتجريد، اذ يدفع الجنود ارواحهم ثمنا لها. لذا فإن الجنود يجب ان يحددوا الآن المخرج من هذا «السياق» المربك وغير الواضح الذي اوجده السياسيون منذ إجازة القرار .1441

اعتقد ان القادة العسكريين الاميركيين توصلوا الى نتيجة مفادها ان منتقدي الرئيس بوش المعارضين للعمل العسكري ضد العراق لا يريدون النظر بجدية الى حقيقة ان حزم القوات الاميركية حقائبها وعودتها ربما تكون اكثر تكلفة من المضي قدما.

هذه الحرب ليست فيلما سينمائيا تنتهي قصته بصعود الجنود وهم يبتسمون الى طائرات تقلهم عائدين. فإذا تراجعت الولايات المتحدة عن موقفها الحالي، فإن ذلك يعني تراجعا ضمنيا عن اعتبار صدام حسين خطرا يهدد السلام العالمي. اما اذا حدث العكس فإن العقوبات ستنتهي، كما ان منطقتي الحظر الجوي في شمال العراق وجنوبه، واللتين تكلفان حاليا بليون دولار شهريا، ربما لا يعود الاحتفاظ بهما امرا ضروريا. مرة اخرى، ليس هناك أي تجريد ازاء الثمن الذي سندفعه.

الادارات الاميركية التي سيطر عليها الحزب الجمهوري تخلت عن الاكراد ليواجهوا فظائع بغداد ثلاث مرات خلال العقود الثلاثة السابقة، اولها عام 1975 عند نهاية التمرد الكردي، والثانية عام 1987 عندما استخدم صدام حسين الاسلحة الكيماوية ضد الاكراد، ثم في عام 1991 عند نهاية حرب الخليج الثانية. وبعض منتقدي الرئيس بوش يحاولون إلقاء مسؤولية ذلك عليه في محاولة لشل حركته.

الموقف التركي فتح الطريق أمام الالتزام الاخلاقي المفترض للولايات المتحدة ازاء الحكم الذاتي الذي يسعى اليه الاكراد ويستحقونه، اذ يجب ان يكون الأكراد ضيوف شرف في أي احتفاء بالانتصار، لا ان يتركوا تحت رحمة الحكام الدكتاتوريين العرب او الجنرالات الاتراك.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»