بوش يرى العالم من طائرة U 2

TT

قبل انتخابه رئيسا للولايات المتحدة زار جورج دبليو بوش اسرائيل وفلسطين. كان ذلك بالطبع قبل انتخاب شارون رئيسا لوزراء اسرائيل لاول مرة.

وتجول جورج بوش في ارض فلسطين جوا، في طائرة هليكوبتر وكان برفقته شارون، الذي ركز حديثه شرحا وتفصيلا حول الاهمية الامنية الاستراتيجية للمستعمرات التي بنتها اسرائيل في الضفة الغربية المحتلة.

وكثر الذين لا يعرفون ان الطيران من شاطئ تل ابيب الى نهر الاردن على متن هليكوبتر لا يستغرق ربع ساعة، وعلى متن طائرة تجارية (بوينغ) لا يستغرق خمس دقائق، اما على متن ف ـ 16 فلا يستغرق اكثر من دقيقتين.

استهدف شارون التأثير في جورج دبليو بوش عبر الشرح بأن امن اسرائيل سيبقى مفقودا، اذا تخلت اسرائيل عن هذه المستعمرات (والتي يسمونها مستوطنات) التي خطط لبنائها وشيدت لتكون «درعا اماميا» ووسيلة لتقطيع اوصال التجمعات السكنية الفلسطينية. اي انها درع امامي في وجه اي «غزو من الشرق» ودرع داخلي في وجه اي تحرك فلسطيني للتحرر من نير الاحتلال.

بالطبع تأثر بوش بالحديث، لكنه لم يطأ الارض، ولم يتجول في الضفة الغربية وقطاع غزة ليرى ويستوعب ان الجغرافيا مفصولة عن البشر تلغي الديمغرافيا. وان الارض هي بمن عليها. اي ان البلدان هي ارض وشعوب وليست ارضا خالية يندفع نحوها القادمون من الخارج ليقيموا فيها مستعمراتهم. ولم يتجول ليرى ان ثمن التوسع الاستعماري الاسرائيلي هو دم بشري وأملاك شعب عاش فيها على مدى التاريخ. لم ير جورج دبليو بوش ما ارتكبه الاحتلال الاسرائيلي ضد شعب اعزل. ولم ير الرئيس كيف استعبد الاحتلال الاسرائيلي البشر.

ولم يلتق جورج دبليو بوش بأي عائلة فلسطينية صادر الاحتلال ارضها وارض اجدادها ليبني عليها مستعمرة لمئات من الاميركيين الذين جاءوا من بروكلين او من مناطق اخرى في نيويورك.

ولم يدرس بوش الابن تاريخ الشرق الاوسط وربما لم يدرس تاريخ الولايات المتحدة نفسها.

عاش وترعرع في ولاية تكساس بين آبار النفط وانابيبه ومكاتب شركات النفط الفخمة. وارجح انه لا يعرف حتى الآن (بعد عامين من الحكم) عدد الاميركيين الذين لا مأوى لهم وعدد الاميركيين الذين يعيشون تحت خط الفقر وعدد الاميركيين غير القادرين على تلقي المعالجة الطبية لعدم توفر المال لديهم.

وكذلك الامر بالنسبة للعراق.

فالعراق بالنسبة لجورج بوش هو آبار نفط، وانابيب وثروة يمكن ان تنهب. وينظر للأرض من طائرة يو تو (U 2) من دون ان يرى ستة وعشرين مليونا من البشر احكمت عليهم الولايات المتحدة حصارا منذ 11 عاما، وقتلت بذلك مليون طفل عراقي لنقص الدواء والغذاء.

الامر بالنسبة للرئيس بوش ليس تدمير الاسلحة المحظورة التي يعتقد ان العراق يخزنها. الامر بالنسبة له، هو تدمير العراق مؤسسات وعلما وعلماء وخبرة ونهب ثروته حتى لا يتمكن العلماء والشعب العراقي من تطوير صناعة تستغني جزئيا عن احتكار الصناعات الغربية ولمنع العراق من انتاج اسلحة للدفاع عن نفسه في وجه الطامعين الذين يريدون نهب ثرواته لتتحكم بأسواق النفط في العالم امثال جورج دبليو بوش.

غدا السبت 2003/3/8 سيعقد المجلس المركزي الفلسطيني جلسة لاقرار الدستور الجديد، الذي ينص على منصب وصلاحيات رئيس وزراء في فلسطين. وسوف يقر المجلس من دون شك هذا الدستور الجديد. وسيعقد المجلس التشريعي جلسته لبحث الدستور ومناقشة بنوده يوم الاثنين 2003/3/10. وسيقر المجلس التشريعي الدستور وسوف يكلف الرئيس ياسر عرفات تسمية رئيس الوزراء: اول رئيس وزراء فلسطيني.

والخطوات الطويلة التي قطعت على هذا الطريق كانت تلبية لمطلب داخلي اولا وقبل كل شيء، لكنها تلازمت مع ضغوط شكلتها كل الحملات التي شنتها الدوائر المعادية للسلطة الفلسطينية تحت شعار الاصلاح.

فإسرائيل تريد رئيس وزراء ينتزع صلاحيات ياسر عرفات عنه، ويتسلمها منه، بحيث يتحول ياسر عرفات الى رمز بدون صلاحيات.

واسرائيل تريد رئيس وزراء «مطواعا»، اي ان يقبل بما تمليه عليه سياسيا وامنيا واقتصاديا.

والولايات المتحدة التي اقنع فريق العمل المختص فيها رئيسها بأهمية نزع الصلاحيات من الرئيس ياسر عرفات، ساندت وضغطت باتجاه هذا التغيير، لكن رياح فلسطين لم ولن تجري كما تشتهي سفن اسرائيل او الادارة الاميركية. وسيكلف رئيس وزراء ملتزم بالثوابت الوطنية، ويقوم بدوره المنصوص عليه بالدستور ولن يتمكن من اتخاذ قرار سياسي تحت ضغط دبابات شارون. فالقرار السياسي والامني سيبقى قرارا جماعيا وتحت اشراف وقيادة الرئيس ياسر عرفات، الذي تعتبره الحكومة الاسرائيلية العقبة الكأداء في وجه رضوخ الفلسطينيين لمشروع شارون التوسعي ومخططه لتفريغ «خريطة الطريق» من كل المضامين والنصوص التي تؤدي الى قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وذات تواصل جغرافي وبشري يمكنها من ان تكون دولة قابلة للحياة والنمو.

وتبدو في الافق محفوفة بطبول الحرب ضد العراق مؤشرات العد العكسي لجريمة الاستباحة النكراء استباحة فلسطين وشعبها الاعزل وبيوتها ومصانعها ومزارعها واستباحة العراق وشعبه وثرواته ومؤسساته.

فالعالم الذي صمت طويلا على هذه الاستباحة الاسرائيلية الاميركية لكل المواثيق والمبادئ والاتفاقات والمبادئ الانسانية وحقوق الشعوب وسيادتها على اراضيها، هذا العالم بدأ يصحو.

فالرأي العام العالمي يعبر عن نفسه بنفسه عبر عشرات الملايين الذين يتظاهرون ضد خطط الحرب العدوانية على العراق.

وما يؤكد تلازم الاستباحة الاسرائلية والاميركية هو ان هذه المظاهرات العارمة التي تهتف ضد الحرب وتهتف في الوقت ذاته لحرية الفلسطينيين، وترفع علم العراق وعلم فلسطين معا.

كذلك فان تعبير الرأي العام العالمي عن نفسه بهذا الزخم الهادر شجع من كان مترددا لاتخاذ مواقف تستهدف وضع حد للاستباحة والانفراد الاميركي في التصرف بشؤون العالم، وكأن العالم مزرعة ابقار اميركية.

فبدأت دول، لا يمكن لأحد الاستهانة بها، تبلور تدريجيا حلفا مناهضا للهيمنة الاميركية الانفرادية في العالم. واقتربت روسيا وفرنسا والمانيا والصين من تشكيل قطب جديد يعيد للعالم نوعا من التوازن الذي يمنع على الاقل عدم اكتراث الولايات المتحدة لرأي دول العالم قاطبة، والتصرف عدوانيا بشكل منفرد للهيمنة على ثروات الشعوب. ولا شك ان نشوء مثل هذا القطب سوف يشد من عضد دول كثيرة، ارتعدت وترتعد من تفرد الولايات المتحدة بالقرار ومن استباحتها للعالم، ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي والمواثيق والمعاهدات.

فدول عدم الانحياز والاتحاد الافريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي جميعها اتخذت مواقف معارضة للحرب التي تنوي الولايات المتحدة شنها على العراق وشعبه، واتخذت مواقف واضحة تدين استباحة الاحتلال الاسرائيلي لارض فلسطين وشعبها وتطالبها بتطبيق القرارات الدولية.

وهنا يبرز العامل الذاتي: الصمود والصبر، وهذا هو الدرس الكبير. اذ مهما بلغ جبروت القوة الظالمة من عنف وقسوة وعدوان، فان اصحاب الجبروت ومستخدميه ضد الشعوب لا يمكن إلا ان يخسروا امام صبر وصمود ومقاومة الشعوب التي يحاولون كسر ارادتها واستعبادها.

هذا ما سيحصل في فلسطين والعراق.