الانعكاسات المحتملة على الساحة المغربية للأوضاع العربية الراهنة

TT

تتردد على أفواه دبلوماسيين أوربيين في الرباط، وفي لقاءات مع فاعلين سياسيين وباحثين في أقطار مجاورة، تساؤلات ملحة حول التفاعلات المحتملة في الساحة المغربية للانعكاسات التي ستكون لحرب العراق.

ففي ظل وضع اقتصادي هش، ومع أزمة اجتماعية تستفحل، وفي ظل عودة اسئلة عن الوضع المؤسساتي توحي بأن المحاور التي شغلت أفكارنا طيلة عشرية التسعينات ما زالت قائمة، يخشى أن يكون وقع الحرب شديدا ومؤديا إلى تجدد الاضطراب، على نحو يجعل المجهود الذي بذل طيلة عقد من الزمن للبناء الوطني معرضا للاهتزاز. وأول ما يتبادر إلى الذهن في هذا السياق هو استشراء التطرف، وما قد يجره من عودة طغيان الهاجس الأمني على ما عداه.

والواقع اننا نعيش وضعا قلقا منذ عدة شهور. وإلى حد ما فإن حرب العراق، وما تعنيه من اضطراب في الأفكار واهتزاز للمخططات قد بدأت، حتى قبل أن تدخل فصلها التدميري، وقد بدأت على الأقل منذ الصيف الماضي، وأحدثت آثارا ملموسة، من أبرزها، في الدول غير المنتجة للنفط والمغرب من بينها، هذا الصعود المتوالي لأسعار النفط. فمن 31 إلى 33 إلى 40 دولارا للبرميل سينعكس هذا الصعود في الأسعار على الفواتير التي ستسدد في المدى القريب. وبالنسبة لبلد بنى ميزانيته على أساس أن سعر البترول هو 25 دولارا للبرميل، تمثل المعطيات المتعلقة بسوق النفط، مصدر قلق إذا ما علمنا ان الحكومة يجب أن تتدخل لجعل سعر النفط في حدود القدرة الشرائية للمواطنين.

وبالنسبة لبلد بنى برامجه التنموية على أساس إنعاش السياحة، وهي صناعة لا تتطور ولا تنمو إلا في ظل السلم والاستقرار، فإن صعوبات جمة تتجدد في الأفق حينما تدخل الحرب في مرحلتها التدميرية، إذ ستضيق فرص إحداث مناصب الشغل لاستيعاب مئات الآلاف من العاطلين، ومن فرص إحداث حركية تمكن من محاربة الفقر الذي يتخبط فيه خُمس السكان الذين يعيشون بأقل من دولار في اليوم. إذ أن ستة ملايين مغربي مصنفون في حافة الفقر.

لا شك ان الحرب في مرحلتها العسكرية التدميرية ستعرض للاهتزاز كثيرا من المخططات التي تم تحضيرها للسنوات الخمس القادمة، في ظل أجواء من الاستبشار النسبي الذي رفع من درجته فصل شتاء ممطر أنسانا سنوات الجفاف التعسة التي اجتزناها.

من هنا فإن المغاربة حينما تظاهروا عدة مرات في مختلف المدن ضد الحرب، فهم يريدون دفع ما يحيق بهم من شر، وما يعرض المخططات التنموية التي حضروها، إلى التلاشي. وسيكون عليهم أن يخفضوا سقف تطلعاتهم التي كانت متفائلة بشكل محسوب.

وإذا ما أضفنا إلى ذلك احتمال تقلص الاستثمارات الأجنبية المعول عليها لإيجاد فرص الشغل، سيكون علينا أن نتفهم ميل بعض الأوساط الاستثمارية الخارجية إلى إدراج المغرب ضمن خانة البلدان ذات المخاطر العالية. إن هناك مستثمرين في بعض البلدان القريبة يعرفون مباشرة الحقائق التي يقوم عليها الاستقرار في المغرب. ومن هؤلاء المستثمرون الإسبان الذين رغم مرور العلاقات الإسبانية ـ المغربية بأزمة طالت 19 شهرا، استمروا بل رفعوا من قدر استثمارهم في المغرب. لكن ليس الجميع في مثل وضع الإسبانيين والفرنسيين. فالمستثمرون العرب ما زالوا يجهلون الفرص المتاحة لهم في المغرب. وقد تأتى لبعضهم أن يتعرفوا على الحقائق بمناسبة الاجتماع الذي جرى مؤخرا بالرباط لدراسة إمكانات استثمار الرساميل العربية في البلدان العربية.

إن الحسابات الوطنية هي التي تملي الاختيارات السياسية في الوقت الذي أصبحت فيه الاقتصادات الوطنية محكومة بالأوضاع العالمية، وخصوصا بالنسبة للمغرب الذي اختار الاندماج في الاقتصاد العالمي طريقا للتنمية.

إن النسق السياسي المغربي قادر على التحكم في ضوابط الاستقرار في سقف معقول وبمواصفات باتت من مميزاته الثابتة. فمنذ أكثر من عقد من الزمن ـ على الأقل ـ يتميز الاستقرار القائم في المغرب بأنه يقوم على أساس الانفتاح، والحوار البناء في ما بين الفاعلين السياسيين، وذلك في غمرة وجود حياة سياسية حقيقية قوامها تعددية حزبية راسخة، ومؤسسات تعززت مصداقيتها، خاصة بعد انتخابات 2002/9/27 التشريعية التي جرت لأول مرة بعد 1963، بمواصفات لا تختلف عما هو معمول به في البلدان الديموقراطية. ثم انه رغم تعثر عابر، فقد انتعشت الحريات الفردية والعامة، وها هي البلاد تقدم على خطوة مهمة في هذا المضمار، بالإعلان عن تخلي الدولة عن احتكار الإعلام السمعي البصري، وإتاحة المبادرة الخاصة، في إطار منظم ستناقش ضوابطه بطريقة ديموقراطية.

وفي هذا السياق فإن الديموقراطية تتعزز، وتزداد قربا مما هو متعارف عليه عالميا في مجال ممارسة وتنظيم الحريات الفردية والجماعية. وأبرز ما يتسم به المشهد السياسي المغربي هو انه يتبلور في إطار صحي قوامه الانفتاح ووجود حياة سياسية حقيقية كما قدمنا.

وفي صيرورة مثل هذه، لا بد أن يكون هناك اختلاف، وفوق هذا اعتراف بالاختلاف، بما في ذلك توقع بروز انفلاتات. وهناك قاعدة مقبولة ومنتشرة وهي ان الأنظمة الديموقراطية تتحمل وجود تيار متطرف من اليمين في حدود 5 في المائة، وتيار متطرف في اليسار في حدود 5 في المائة. وقد تزيد أو تقل النسبة عن هذا الحد، ولكن تبقى العبرة بوجود حالة توافق واسع حول التوجه العام تحظى بتأييد من لدن المجتمع والمؤسسات، ويكون من شأن الممارسة الديموقراطية أن تؤمن زيادة توسيع ذلك التوافق.

وفي ما يخص المغرب يثير أصدقاؤنا الأوربيون من مختلف المواقع، تساؤلات حول احتمالات استشراء التطرف بسبب الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي أشرنا إليها آنفا، بحكم تفاعلاتها المحتملة مع غضب الشارع من جراء حرب العراق، خاصة إذا ما تصدت التيارات المتطرفة إلى استخدام الظرفية القلقة في خطاب حاد يحرج الحكومة والأحزاب.

وليس قليلا عدد الملاحظين الذين يركزون على حادث جديد في المغرب وهو بروز التيار الإسلامي أثناء الانتخابات التشريعية الأخيرة. ويعتبرون هذا البروز مؤشرا على احتداد الوضع ومنذرا بتوقف مسلسل الحداثة، أو على الأقل منذرا بوقوع اصطدامات بين الحداثيين والتقليديين، مما ينطوي عليه الرجوع إلى الصفر في التطور السياسي الحادث منذ التسعينات. وهناك من يذهب إلى تصور ما هو أسوأ بطغيان الهاجس الأمني الذي قد يبرر نفسه بذريعة وضع حد للانفلاتات التي سيجلبها تصدر التطرف للمشهد السياسي.

وبما أن الأمر يعني مباشرة البروز اللافت لحزب العدالة والتنمية، أجدني أذكر مخاطبي هنا وهناك بأن الأصوات والمقاعد التي غنمها هذا الحزب في الانتخابات التشريعية الأخيرة، منبعها الخط المعتدل الذي تبناه هذا الحزب. وبالتالي فعلى قادته أن يتدبروا جيدا هذه الحقيقة الأولية. إذ يرتبط وجودهم ومصيرهم بالتزام هذا الخط المعتدل. ويمكن أن يزداد نفوذهم في المجتمع بقدر الالتزام بالخط المعتدل الذي خاطبوا به الناخبين حتى الآن وفي المستقبل.

إن المشهد السياسي المغربي لن يخرج عن الأقانيم التي تسير على هديها المجتمعات التي اختارت الديموقراطية سبيلا إلى تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات في ظل مؤسسات مقبولة ومتوافق عليها. وسيركز حزب العدالة والتنمية موقعه في الخريطة السياسية المغربية طالما بقي ملتزما بخطه المعتدل.

وكما هو الحال في تجارب أخرى، فقد يحدث لهذا الفصيل أو ذاك أن يستسلم لإغراءات تسخين الشارع بغية جلب الأصوات. ولكن الناخبين لن يصوتوا في نهاية الأمر إلا لمن يثبت أنه لا يغامر ولا يبتعد عن التوافق.

إن أقوى انتقاد يوجه لهذا الحزب هو أن اختياره للديموقراطيا تكتيكي، وأنه جسم غريب عن الحركة الديموقراطية، التي هي في الكنه مسعى حداثي، وسيكون على قادته أن يثبتوا أنهم لا يتكتكون في مسألة الاختيار الديموقراطي، وأنهم يستمدون طرحهم من الخصوصية المغربية.

وفي نهاية الأمر فإن الاستقرار الذي يسم المشهد السياسي المغربي أصبح مؤسسا على اعتبارات بنوية، ولم يعد راجعا إلى اعتبارات ظرفية عابرة. هناك توافق وطني واسع، ويجب الاستمرار في توسيعه، وهناك حياة سياسية حقيقية قوامها التعددية، وهذا وذاك يمكن من استيعاب التيارات التي يفرزها المجتمع.