أبعد من نفط وسياسة

TT

الذين زاروا العراق مؤخراً، بعيداً عن أعين البوليس السري وعن أعين محترفي السياسة ومنظّري الفنادق، يجمعون على قول واحد هو: ان العراق سيضعه أبناؤه من «أهل الداخل» بعيداً عن تجار الحروب والسياسة المقامرين بأقدار الأوطان في معادلة «النفط مقابل السلطة والجاه»، منذ نحو 34 عاما، سواء منهم الذين وصلوا إلى تلك السلطة بالدبابة الإنجليزية المدعومة أمريكياً أو أولئك الذين يتوسلون الوصول إليها بدبابة أمريكية مدعومة بالإنجليز.

أما القدر المتيقن من مجمل ما يقوله أبناء المدن والريف العراقي، فهو ان العراق عصي على الاخضاع والتركيع، وان كل ما تمناه في اللحظة الراهنة هو ما ظل يتمناه طوال الـ 35 عاما الماضية، شاعره الكبير مظفر النواب:

«يا إلهي إن لي أمنية أخرى

أن يرجع اللحن عراقياً وإن كان حزين».

«ولشدة ما بيع واشتري في سوق الساسة المحترفين «موالاة» و«معارضة»، فإن جمهور البغداديين والنجفيين والكربلائيين والبصراويين والموصليين، ومن أقصى شمال العراق إلى أقصى جنوبه، يغنون معاً ومع شاعرهم الكبير مظفر النواب

«تانيني يا ديرة هلي وخلّي الرصاص على الجف

أيام المزبّن كظن تكظن يا أيام اللّف!»

انهم لا يرتجون خيراً، لا من الذين احترفوا المتاجرة بهم في «أم المعارك» المتعددة الأشكال، ولا من الذين احترفوا الرفاهية و«تجارة المؤتمرات» ونقل البندقية من كتف إلى أخرى بحثاً عن أي طريق للوصول إلى السلطة، حتى ولو على يد مدير شركة تجارية أو مصرف، منهار مطارد في الليل والنهار.

انهم يسألون العالم كله وليس محترفي السياسة من بني جلدتهم فقط: هل فعلاً لا يوجد في العراق ما يستحق الرعاية والاهتمام والتفكير به غير النفط والغاز، وكرسي الزعامة، واقتدار السيوف والبنادق، وأسلحة الدمار؟

أين كنتم عندما اقتيد مئات الألوف من أخيار هذا البلد إلى السجون والمعتقلات ومقاصل الموت والدمار الشامل لهم ولعائلاتهم؟!

أين كنتم يوم قتلوا أو نفوا القاص والأديب والروائي والشاعر والمسرحي والفنان والمطرب وصاحب القلم واليراع، لا لذنب اقترفه سوى انه اراد ان يثبت لأولئك الساسة والتجار بأنه هو صاحب الدار وليس صناع الحروب وعابدي الدنيا والدولار؟!، أين كنتم عندما جففوا الأهوار وقطعوا الهواء عن النخيل والأشجار؟!، أين كنتم عندما حولوا بلد الحضارة والعمران إلى بلد الفتن والحروب على الجيران والاخوة التي لم تجلب سوى الدمار والعار والشنار؟!

ولأن «أهل الداخل» العراقي يعرفون الأجوبة الصحيحة على تلك الأسئلة وغيرها الكثير، فإنهم يقولون بملء الفم: لن يبني العراق إلا أبناؤه ممن ذاقوا الأمرين من الجوع والحصار والعض على الجراح، وظلوا ممسكين بوطنيتهم ودينهم وقيمهم كماسك الجمرة بين كفّيه في صيف العراق الطويل، وانه لا مكان، بعد اليوم، لمن تأتي بهم دبابات الاجنبي أو وكلاء شركاته المتعددة الجنسية. فالعراق ليس بئر نفط فقط، ولا حقلا من حقول الغاز، ولا جغرافية سياسية تؤمن السيطرة أو النفوذ لهذا أو ذاك.

ان العراق، كما يقول أهله العاضون على الجراح، من «أهل الداخل»، شعب حي بأقوامه وأعراقه واتباع معتقداته المتنوعة، يتوق للعيش الكريم في ظل خيراته الكثيرة وحضارته العريقة وثقافته الفنية بإرادة مستقلة لا يصنعها ولا يرعاها ولا تترعرع وتكبر وتنمو إلا على يد أدبائه وشعرائه وفنانيه ومزارعيه وعماله واخيار التجار فيه وعلمائه ومثقفيه الأصيلين، الذين يمتلئ بهم العراق، ولا حاجة ان يؤتى بهم من الخارج بالضرورة، وان كانوا عراقيين ومن حقهم أن يعودوا الى وطنهم.

يكفي فقط ان ترفعوا ايديكم عنه اذا كنتم صادقين فعلا في رؤيته متحرراً من سطوة محترفي القتل والدمار والاستبداد والديكتاتورية والطغيان وتجار السياسة ومحترفيها.

والعراق كما يقول أهله «المدنيون»، كفيل ببلورة البديل وبآلية داخلية محضة، إذا ما قررتم فعلاً أن ترفعوا تغطيتكم عن جلاديه ومحاصريه.

واما إذا ما قررتم الحرب عليه أو غزوه أو حتى الدخول إليه بجيوشكم «سلماً»! تحت أي ظرف كان، فإنكم لستم صادقين قطعاً بأنكم تريدون الخير له، بل ستؤكدون فقط أن عملاءكم السابقين استنفدوا أعمارهم ومهامهم، وانكم بصدد عملاء جدد، وبلباس جديد، و«دماء» جديدة تريدون ضخها إلينا مقابل استمرار نهب خيراتنا وفي مقدمتها النفط.

هذا ما يجمع عليه ابناء الداخل العراقي والذي يسمعونه لكل من يجلس إليهم زائرا بعيدا عن أعين البوليس السري وبعيدا عن «شهوة» المعارضات المرفهة في عواصم المتروبول. وهؤلاء هم الباقون ومعهم العراق مهما طال زمن الطغيان وتجار السياسة ومحترفيها القدماء منهم وحديثي النعمة على حد سواء.