تأشيرة دخول لتغطية الحرب

TT

لو كنت استخدمت مفردات الرئيس العراقي صدام حسين في وصف الجيوش الاميركية والبريطانية القابعة خارج اسوار بغداد، المنتظرة تحرير لجامها واطلاق نارها على سكان عزل، لوصفتها «بالعدوة». المصطلح، الذي ينطبق حينئذ، على جيش الاعلاميين المرافق لهذه القوات، وذلك الذي سبقها الى بغداد ودخلها بفنطزية المنتصر حتى قبل سقوطها.

المانع ليس في ان تفتح بغداد، او غيرها، ابوابها للاعلام الدولي، و«العدو» منه في تغطية ما يصيبها، بل المانع في تسهيلها مهمة «اعلام الاعداء» وحصرها «اعلام الاشقاء»، حتى وان كانت تجربته لا تزال فتية في خوض مثل هذه المعارك. فالحق ليس على الصحافي، بل على الروح «المسالمة» لحكوماتنا، التي لو حذت حذو الولايات المتحدة وفتلت عضلاتها بين الحين والآخر، وشنت ضربات «وقائية» ضد هذا وذاك في العالم، لكسبنا جيشا من الاعلاميين المخضرمين في تغطية الحروب، وليس جيشا من الديكة والمنظرين.

وفي هذه الآونة المشحونة، فإن الحديث عن «الاشقاء» قد لا يكون في محله، لما نراه ونشهده من ضرب علني وتحت الطاولة، الا ان اعتى شقيق، في تقديري، يظل ارحم من ألطف «عدو»، لما تقوم القائمة.

وهذا، لاخلص للقول انني كلفت من رئيس تحرير «الشرق الأوسط» قبل اسابيع خلت، بالانتقال الى العراق، وفعلا قدمت الصحيفة ما يتطلبه الامر لبعثة رعاية المصالح العراقية في لندن. ورغم إلحاحي ودفاعي المستميت عن مهمتي حين التقصي عن التأشيرة، قيل لي انها في الغالب لن تأتي، لاستياء الجهات المسؤولة في العراق من تغطية «الشرق الأوسط» للحرب المحتملة.

دفاعي، للامانة، ليس عن «الشرق الأوسط» مباشرة «فللبيت رب يحميه»، بل كان عما هو اعمق من نزاع بين صحيفة ودولة. فهو دفاع عن مهمتنا كصحافيين التي تسيء اليها وتهددها مثل هذه الممارسات المحبطة، التي من المفروض ان تبقي الصحافي والمهمة الاعلامية بعيدا عن انك اليوم صديقي وغدا لست ادري، كون الاعلام خدمة للعامة وليس للخاصة.

والشيء بالشيء يذكر، فقد سبق لي ان زرت العراق، ونشرت «الشرق الأوسط» كل ما نقلته من صور ومشاهدات موضوعية، بشهادة العراقيين انفسهم، لم اكن لأفعل، واكتب لأول مرة بعد عشرية كاملة، عن قضايا بمقياس الكثيرين لن تكون الصحيفة لتسمح بنشرها، لكنها نشرتها، كما هي بالنقطة والفاصلة.

فسوء الظن المجاني، وتوقع الشر قبل حدوثه واعلان الفشل في المهمة قبل خوضها، سلوكيات سلبية وبائسة لم تعمل الا على حجب تغطية الصحيفة للعراق من داخله ودفعتها للاعتماد على مراسلات «منهج الشر» ـ كما تقول بغداد ـ التي يبثها وينشرها الكثير من رجال ونساء «اعلام العدو» من سطوح بيوت العاصمة العراقية وشوارعها التي يجوبونها من دون مضايقة.

فليس من الانوثة ـ او الرجولة ـ او الشجاعة ان انتقد، في الوقت الحاضر، من يقف خلف توقيف تأشيرتي في بغداد، فلهم ما يكفيهم من هم ومآس، بل هي فرصة فقط لمحاولة التوضيح ان التقصير الذي نتهم به كصحافة مكتوبة في تغطيتنا بؤر التوتر في منطقتنا، وخاصة لحرب تاريخية كالتي يُعد لها العدة لا يعود للصحف بقدر ما يعود للدول نفسها، التي تشكو من سياسة الكيل بمكيالين للقوة المستبدة في الساحة، ولا تتأخر هي في تطبيقها عند اي فرصة.

كان على بغداد ان تشجع الصحافة العربية على تعدد ألوانها واختلافاتها للانتشار في ربوعها، خاصة لما تكون مستعدة لأن تكون شاهدة على حرب تاريخية على اكثر من مستوى. فالصحافي العربي، حتى وان كان لا يحل ولا يربط في منطقتنا، فانه مؤرخ لحظته ونزعات قومه.

كنت اتمنى لو ان السلطات العراقية تدرك ان تدابير «الشر» او «الشيطانية» لن تحاك لها من قبل مراسلة «الشرق الأوسط»، كما تحاك حاليا من قبل بعض من هم ـ أو هن ـ على اراضيها او بصدد الانتقال اليها، عندما تحين الساعة.. فاعلام «العدو»، لم يعد اعلاما فقط، بل هو يتأهب بصورة غريبة ومريبة لتغطية هذه الحرب معتمدا على تحالفات وتقنيات لم تشهدها اي حرب سابقة.