ما جرى قد جرى

TT

ذات سنة من الستينات الماضية ذهب صحافي اوروبي الى بيروت والتقط صورة لعربة يجرها حمار قرب «الروشة»، ونشرها في مجلته من قبيل المقارنة بين التقدم والتخلف في العاصمة اللبنانية. وكتبت الزميلة «الصياد» مقالا تنتقد فيه الصحافي والصورة والمجلة وتتهم الغربيين باختيار المشاهد المسيئة الى اللبنانيين والعرب. وكتبت يومها رسالة الى الراحل سعيد فريحة اقول له فيها ان الصحافي الاوروبي لم يرتكب اي خطأ. فهو اولا لم يزوّر الصورة بل وجدها امامه، وثانيا لا يمكن ان يلفت نظر اي اوروبي بناية من 12 دورا لان في مدينته مباني من 120 دورا. اما مشهد عربة يجرها حمار على شاطئ المتوسط وبين اجمل فنادق الشرق، فهو امر مثير.

نشرت «الصياد» رسالتي مع التثنية عليها. فما هو في عالمنا هو في عالمنا. وليست كل اشارة الى واقعنا وحقائقنا تزويرا ومؤامرة وتلفيقا. هذا هو عالمنا، ويجب ان نعترف به كما هو، لا ان نمضي في الاصرار على عالم متخيل لا وجود له الا في الكتب المدرسية. وما لم نتواضع قليلا وننظر الى حالنا فسوف ننهار ونحن نكابر ونزعّق. وسوف تمتد الينا الايادي الخبيثة وتمعن في قهرنا وفي دفعنا الى المزيد من التخلف فيما نحن ننظم الاناشيد عن تقدمنا.

كل ما يتطلبه الامر هو ان ننظر الى المرآة وان نصغي الى حواراتنا القومية. لا نستطيع ان ننشر اعلانا في «النيويورك تايمس» عن التقدم العربي في نفس العدد الذي تنشر فيه الصحيفة نص خطاب نائب الرئيس العراقي في مؤتمر الدوحة.

ليس لان السيد عزت الدوري استعان باوصاف الحيوانات لمخاطبة دولة عربية اخرى، فهذا امرغير مفاجئ. ومن اصغى الى بعض الاذاعات العربية في السنوات الماضية يعرف لماذا نحن هنا. او يدهش لاننا وصلنا الى هنا فقط. لكن المذهل في كلام السيد الدوري قوله «ان العراق قد دخل الكويت العام 1990، وما جرى قد جرى». نقطة على السطر، لان «ما جرى قد جرى» وانتهى الامر.

لماذا اعطاء الاشياء اهمية لا تستحقها؟ انها مجرد رحلة صيف من بلد الى آخر. وما جرى قد جرى. ليست هي الانهيار الذي طمر العلاقات العربية الى قرون وقلب وجه المنطقة وادى الى تحويلها الى خريطة من القواعد العسكرية. قبل ذلك اطلقنا على احتلال سيناء والقدس والجولان والضفة اسم «النكسة». وذلك كمقارنة لطيفة مع «النكبة»، مع العلم ان الخسارة الثانية افدح من الاولى بكثير. نحن غير مسؤولين عن اي شيء، كل ما نفعله «امجاد» وكل ما يحل بنا مؤامرة. او نكسة. وما جرى قد جرى.

والقضية؟ ماذا عن القضية؟ القضية يا سيدي انه اصبح لدى السلطة الفلسطينية رئيس للوزراء. انها هدية العام للشعب الفلسطيني. يمر على السلطة الفلسطينية خمسة رؤساء وزراء في اسرائيل: رابين، وقاتلاه، شارون ونتانياهو، وحليفاه بيريز وايهود باراك، وتجري في اسرائيل بضع عمليات اقتراع من اجل تفويض الجزارين بحرية المجازر. ونحن لا نزال ننتظر ان يسمي ابو عمار رئيسا للوزراء من رفاقه او اقرب الناس اليه. ومنذ اسبوع ومسألة تعيين الرجل الثاني تصور على انها هدية تاريخية للشعب الفلسطيني مثل استعادة الضفتين. يا سيدي رئاسة الوزراء في بلدان هذا الكوكب امر بديهي طبيعي وحق من حقوق الناس. هناك رئيس للوزراء في جمهورية موريشيوس.

اذا كان هذا واقع الحال، فيجب ان نقر بأن هذا هو واقع الحال. وانه لا يمكن لصورتنا ان تكون افضل منا. وان نشر خطاب الحقد والتحريض والتجريح والتخوين والتسخيف طوال نصف قرن، لا يمكن ان يؤدي الا الى ما ادى اليه. فالنكسة كانت هزيمة تاريخية كبرى افظع بكثير من خسارة الاندلس. وسقوط الوحدة المصرية ـ السورية كان نكبة حقيقية للمشروع الوحدوي. والحروب الاهلية في الاردن ولبنان كانت عارا قوميا. وكذلك العجز العربي عن حصرها. وغزو الكويت وضمها، كان ترهيبا لا ينسى لفكرة الوحدة والجوار. ولكن المصاب الاكبر من كل هذه الكوارث مجتمعة هو الخطاب السياسي الذي رافق عملية الانهيار المستمر غير المتدارك. وقد ارسى هذا الخطاب قاعدة عامة وراسخة: ما جرى قد جرى.