التحدي والاستجابة

TT

يبدو أنه ليس لدى العرب استجابة واضحة أو مجمع عليها ضد الاستراتيجية الامبراطورية الامريكية الاسرائيلية الا رفض الحرب ضد العراق الذي ظهر في اجتماع القمة العربية الاخيرة، وهذا شيء جيد على أية حال، وعلى الرغم من التحليلات الكثيرة التي تناولت تلك الاستراتيجية الا ان الظاهر ان العرب لم تتبلور لديهم استراتيجية مضادة أو قل استجابة مدروسة لتلك التحديات البالغة الخطورة، بل ان رد الفعل العربي تأخر كثيرا عن ردود الفعل العالمية، وبعد اندلاع المظاهرات في كل ارجاء العالم صارت الحكومات العربية تدبر مظاهرات مثيلة بعد ان وقفت ضد المظاهرات التلقائية أو قل الشعبية حتى لا تبدو متقاعسة ـ وهي صاحبة المشكلة ـ بالقياس الى شعوب العالم، وربما يمكن تفسير ذلك بأن الكثير من البلاد العربية ليس لديها تصور عن علاقات القوى في العالم وبالتالي تعجز عن التنبؤ بمجريات الامور وبالتالي تقف مكتوفة اليدين حتى تتبين لها الامور، فحتى اجتماع القمة العربية جاء متلكئا مع أن العالم كله كان قد اتخذ موقفا، سواء بالنسبة للاتحاد الاوروبي أو بعض مؤسسيه فضلا عن روسيا الاتحادية والصين، وكانت الدعوة الاولى استثنائية ثم عدلت الى عادية حتى يتبرأ الاجتماع من أي حدة قد تحسب عليه من جانب الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من حسابات المصالح وأهميتها بالنسبة لرسم السياسات الا ان هناك دائما ضرورات سياسية وجغرافية تفرض نفسها على الدولة أو الاقليم ولا تملك حتى المصالح ان تتجاهلها، فبلد مثل مصر أو السعودية لا تحكمها المصالح التكتيكية وحدها وبالتالي تدفعها للتصرف خارج تلك الحتميات الجغرافية السياسية التي تفرض في الواقع سياسة استراتيجية طويلة المدى يصعب خلخلتها مثل الدور المركزي الذي تلعبه مصر والسعودية في المنطقة وكذلك الامر بالنسبة للدول الرئيسية الاخرى.

والمخطط الامريكي الاسرائيلي يهدف الى انشاء قوة مركزية جديدة هي الدولة الاسرائيلية تنزع كل المركزيات الاخرى من المنطقة، وتحولها الى دول تابعة باسم الاصلاحات الديمقراطية، أو بالنص الصريح لوزير الخارجية الامريكي كولن باول اعادة تشكيل المنطقة بما يتفق مع المصالح الامريكية، وبصرف النظر عن وسائل الاقناع أو الضغط التي تمارسها الولايات المتحدة على الدول المركزية في الشرق الاوسط لقبول التعديلات، فانه يبدو ان الجغرافيا السياسية تلعب دورا حازما بالقرارات السياسية التي تصدر عن هذا البلد أو ذاك. ومن الطبيعي بناء على ذلك ان الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة والتي ساندتها في الكثير من الظروف تعجز عن التخلي طواعية عما تفرضه عليها جغرافيتها السياسية وتتنازل عن طبيعتها المركزية ودورها التاريخي في المنطقة، ومن الواضح ان الولايات المتحدة لم تضع في اعتبارها هذه الحقائق ظنا منها ان ما تريده ينبغي ان يريده اصدقاؤها.

والواضح ان التشهير بالعالم العربي على مستوى الرأي العام العالمي، والذي يمضي على نطاق واسع في الكثير من بلاد العالم وفي مقدمة ذلك الولايات المتحدة، ومنذ أمد بعيد، يعطي الفرصة للسياسة الامريكية الاسرائيلية الجديدة أن تعبث بمصائر البلاد العربية المركزية بزعم انها دول استبدادية تعامل شعوبها اسوأ معاملة ولذلك يلزم تغييرها.

وبصرف النظر عن الحقائق التاريخية التي يعرفها جيدا المتابعون للامور السياسية في منطقة الشرق الاوسط من الاوروبيين والامريكيين والتي ساندت وحفزت فيها الولايات المتحدة حركات الاسلام السياسي ليس فقط في افغانستان بل في كل انحاء العالم اثناء مواجهتها للايديولوجية الشيوعية ايام الحرب الباردة، فهي الآن تستخدم هذه القوى التي صنعتها لضرب العالم العربي وتشويه سمعته وتهميشه بعيدا عن المجتمع الدولي، وليس خافيا على أية حال ان الكثير من الانظمة العسكرية أو الاستبدادية التي نشأت في المنطقة كانت بتأييد وتشجيع الولايات المتحدة بصفة خاصة.

ومهما يكن الامر فان الارادات البشرية، حتى لو كانت ارادة الدولة الاعظم في العالم، ليست مطلقة في رسم السياسات هنا أو هناك لان الذي يقرر السياسات في الواقع ظروف متعددة قد تعجز الارادات ـ مهما تكن قوتها ـ عن تحديها أو تجاوزها مثل حتميات الجغرافيا السياسية والتاريخ والثقافة السائدة، والظروف الدولية ايضا، وكل هذه الظروف ليست في صالح المخطط الامريكي الاسرائيلي.

على المستوى الدولي صار من الواضح لشعوب الكثير من دول الاتحاد الاوروبي، بما في ذلك الدول التي ايدت الحرب ضد العراق، ان الولايات المتحدة تسعى لتكوين امبراطورية تحكم العالم وفي مقدمتها الشعوب الاوروبية، وان هذا السعي ليس وليد اليوم بل يرجع الى سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها اذا لم تخف الولايات المتحدة رغبتها في الحلول محل الامبراطوريات القديمة واولها بريطانيا، وكانت مبادرتها بالوقوف ضد دول العدوان الثلاثي على مصر الذي قام به تحالف بريطاني فرنسي اسرائيلي بغرض الهيمنة على قناة السويس ولذلك ظهرت الدعوة الى ملء الفراغ التي اعلنها الرئيس الامريكي ايزنهاور آنذاك والتي رفضها الشعب المصري والقيادة المصرية وتسبب ذلك في المضاعفات الكثيرة التي تتابعت على المنطقة ومنها حرب سنة 1967 التي جرد فيها الشعب المصري من سلاحه في حقيقة الامر، وعلى الرغم من تنبه الزعماء الغربيين للاطماع الامريكية مثل تشرشل وديجول الا ان الاستراتيجية الامريكية كانت تظهر بوادرها وتختفي حسب الظروف وبسبب الحرب الباردة بصفة خاصة، على انه بعد انتهاء هذه الحرب اصبحت الاهداف الامريكية واضحة جدا وتمضي باسلوب متسارع، حقا تملك الولايات المتحدة قوى متعددة للتأثير على سياسات العالم الا ان الطموح الامريكي بالنسبة للعالم لا يقل صعوبة عن الطموح الذي يريد تجاوز حتميات الجغرافيا السياسية والتاريخ في الشرق الاوسط، ومن الصعب ان تستسلم الدول الاوروبية والدول الكبرى الاخرى مثل اليابان والصين والهند واندونيسيا للمخطط الامريكي وتضع بيضها كله في السلة الامريكية، ومهما تكن الوعود فان السيطرة على مصادر الطاقة والاسواق في الشرق الاوسط بمعناه الواسع وفي وسط آسيا كل ذلك يصطدم مع امن ومستقبل كل هذه الدول، ومن الطبيعي ان نتوقع مواجهات بين الطرفين بصورة أو اخرى، ومع ان التنبؤ بمستقبل هذه التناقضات أو الصدامات يصبح رجما بالغيب الا ان احتمال نجاح المخطط الامبراطوري الامريكي تحوط به شكوك كثيرة وربما قد يؤدي الى عواقب بالغة الخطورة، واذا افترضنا ان الولايات المتحدة اجتاحت العراق وفرضت حكومة تابعة على العراق أو حكمته بشكل مباشر على نمط حكمها لليابان أو المانيا بعد هزائم الحرب العالمية الثانية، كما تردد القول كثيرا على لسان الرئيس بوش، فهل سينتهي الامر بكل بساطة؟ أم ستنطلق مقاومات سواء في العراق أو خارج العراق، وهل ستقف الشعوب العربية شاكرة الولايات المتحدة انها جاءت لتحريرها ووضع نظام ديمقراطي ـ خاصة في الدول المركزية في المنطقة ـ يجعلها مدجنة وقابلة بالسيادة الاسرائيلية؟ وهل تعتقد الولايات المتحدة ان شعوب المنطقة على قدر ضخم من الحماقة بحيث تعتقد ان جيوشها جاءت لغير ما سبب الا نزع اسلحة العراق وانقاذ شعبه من هيمنة وديكتاتورية صدام حسين، أو جاءت لتنقذ العالم المتمدن من حماقات الرئيس العراقي واستخدامه للاسلحة فائقة الدمار، بينما هي تترك الآلة العسكرية الاسرائيلية التي انشأتها تقتل كل يوم الفلسطينيين الذين اغتصبت ارضهم علنا ودون الاستناد الى أي ذريعة حقيقية، وتتباهى بأسلحتها النووية والكيماوية وغيرها من آلات الدمار الشامل.

حقا انني لا اتصور ان الحشود العسكرية الامريكية التي تتزايد كل يوم بحيث وصلت حسب الارقام المعلنة مؤخرا الى ما يزيد عن ثلاثمائة الف جندي الغرض منها هو غزو العراق ونزع سلاح العراق فهذا العدد الضخم اكبر من مجرد هذا الهدف ولا بد ان هناك استخدامات اخرى في المنطقة ولأمد غير قصير، ولا بد ان جنون القوة هو الذي يقود هذا التفكير المغامر، فهناك وفي نفس الوقت تمرد في القارة الاسيوية تقوم به كوريا الشمالية وهو تمرد لا يمكن ان يكون منفردا ولابد ان وراءه تأييدا ما هنا أو هناك، حقا تنشر الصحف عن حركة تعبوية امريكية على الحدود لاحتمالات مواجهة التمرد الكوري. وها هي مغامرة اخرى اكثر تعقيدا من المغامرة الفيتنامية القديمة على وشك ان تنطلق في نفس الوقت الذي تطبخ فيه مغامرة العراق، هل من الممكن ان يغيب كل ذلك عن المخططين الامريكيين؟